أدونيس وخالدة سعيد.. معاًمن أجل ثورة أدبية عارمة


*محمد ولد محمد سالم:


على بساط الثقافة والأدب والسياسة التقيا. كان الزمان بداية التشوف للنهضة الثقافية في سوريا، والمكان بيت الإعلامية عبلة الخوري في دمشق، طال اللقاء والسجال الثقافي ست سنوات، حتى اقتنعا بأن كلاً منهم يصلح رفيقاً للآخر، فتزوجا. تلك هي بداية رفقة ستين عاماً من حياة علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس)، وزوجته خالدة الصالح (شقيقة سنيّة زوجة محمد الماغوط).
جاء ابن قرية القصابين في ريف اللاذقية إلى دمشق، بعد تجارب ثقافية قصيرة في اللاذقية، حيث كان يكتب الشعر وينشره في إحدى مجلاتها باسم «أدونيس» الذي اختاره لنفسه، بعد أن قرأ أسطورة ذلك النصف إله اليوناني الفينيقي الذي يرمز إلى الجمال والعشق، وكان فتى اللاذقية قد ضاق ذرعاً بازدراء أصحاب الصحف والمجلات في المدينة لأشعاره، التي كان يواظب على كتابتها وإرسالها إليهم، فلا تلقى منهم اهتماماً، لكنه بعد أن عثر على تلك الأسطورة، قرر أن يوقع قصائده بذلك الاسم، خصوصاً أنها في الأصل أسطورة فينيقية، ستربطه بالجذور التي ينتمي إليها فكرياً، جذور حزبه، الحزب القومي السوري، وكانت مفاجأته كبيرة حين نشر النص، وأتبعه بآخر فنشر، واستدعي إلى المجلة، ولما رآه صاحبها فوجئ به أشد المفاجأة، فلم يكن يتوقع أن ذلك الاسم الأسطوري الغامض المغري في ذلك الوقت، سيكون لذلك الشاب ذي السبعة عشر عاماً.
إلى دمشق سبقته شهرة الاسم، وشهرة قصائده، عندما يمّم نحوها، وكان عائداً لتوه من الخدمة العسكرية، وفي طريقه للالتحاق بالجامعة، وكانت الفتاة الشابة المتقدة ذكاء وحساً أدبياً، طالبة دار المعلمين في دمشق، قد قرأت تلك القصائد وأخذت بها وبالاسم البراق يلمع تحتها، كان بيت المذيعة عبلة خوري يومئذٍ، قبلة للمثقفين والقوميين السوريين، فانفتح أمام أدونيس، وأمام البنت الذكية خالدة، وشيئاً فشيئاً تكشفت لذلك الشاعر الحالم المتمرّد على كل شيء، قوة عقل تلك الفتاة، وأسرته رزانتها ودقة أفكارها، فرأى فيها ما يمكن أن يساعده على أعباء ثورته الأدبية التي بدأ يستكشف اتجاهاتها، ورأت هي فيه مشروع شاعر كبير وثوري من طراز رفيع، فسلمته زمامها، وتبعته في مذاهبه التي لم يكن يعرف إلى أين ستقوده، لكنه يعرف شيئاً واحداً، أنها ينبغي أن تزعزع كل شيء، وتتجاوز كل الحدود والخطوط الحمر.
في بيروت فُتحت لهما أبواب الثقافة على مصراعيها، وارتميا معاً فيها بإخلاص واجتهاد، لا نظير له، دراسة وإبداعاً وتنظيراً. ففيها أكملا دراستهما الجامعية، وفيها انخرطا في التجربة الثورية لمجلة «شعر» التي اجتمع فيها قادة ألوية الحداثة الشعرية، وعلى رأسهم أدونيس ويوسف الخال صاحب المجلة، وأنسي الحاج/ ومحمد الماغوط، وكانت خالدة في القلب من ذلك الزخم الحداثي، بقلمها النقدي الذي حضر في أول الأعداد، وواصل حضوره، إعلاناً عن ميلاد ناقدة حداثية حصيفة النظرة مستقلة الرأي، بعيدة عن التنظير الأجوف، تحب لأفكارها أن تكون مطبقة بشكل ملموس، فكان أن تناولت بالتحليل والنقد شعر فدوى طوقان ونازك الملائكة وأدونيس ومحمد الماغوط وسنية صالح وغيرهم كثير. واستطاعت تلك المرأة الجادة الهادئة أن تثبت وجودها وتحافظ على استقلالها بين تلك الأسماء التي كانت تخطف الأضواء في غمرة النشوة الفكرية والشعرية في لبنان، لم يطمسها اسم زوجها الذي لمّعته تنظيراته وآراؤه الجدلية وشهرته الشعرية، وعرفت كيف تسير إلى جانبه، وربما يكون اختيارها لمجال النقد المتخصّص أحد الأسباب التي حافظت لها على تلك الاستقلالية، فلم تدخل تحت عباءته الشعرية والفكرية، وأسهم انتشار كتبها في ذيوع اسمها، بعيداً عن زوجها، ولا يزال كتابها «حركيّة الإبداع» (دار الفكر، بيروت، 1982)، أحد المراجع النقدية التأسيسية في الحداثة الأدبية، ومع ذلك فإنها في الجوهر تتفق معه في المشارب القومية، وفي الرؤية الفكرية الثورية، ومن مظاهر ذلك الانسجام، فضلاً عن الصحبة الأدبية والزوجية الطويلة، اشتراكهما في سلسلة من الكتابات الثقافية، كان أهمها سلسلة رواد النهضة التي ضمت كتباً عن عبد الرحمن الكواكبي ومحمد بن عبد الوهاب ومحمد عبده وأحمد شوقي وغيرهم.
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *