*عزة كامل
جلست في حجرتي استمع إلى غناء أم كلثوم، ونسائم الصّيف الحارة تلسع وجهي، دمعت عيناي، وأخذني الحنين لأمسيات صيفية مرّ عليها زمن، تخلِّف لي ذكرى عذبة، مفعمة بأجواء غسق لطيف، تقطعها مداعبات الأصدقاء وهمسات نشوتهم باللّحن والكلمات، ومن سُكْر خفيف خَدِر، وتنميلة قبلات بريئة تطبع مذاقها على شفاه رطبة.
كم تمنّيت أن استرجع ما أخذته الأيام حتى لو كانت لحظات عابرة وخاطفة! كم تمنّيت- أيضاً- أن أبعد عني ذكريات تثقل صدري، وتشعرني بالغربة والعزلة والوحشة، وتثير مشاعر الصمت والحزن والأشواق والحبّ الضائع.
كنا نجلس، في مساء ليلة من ليالي رمضان، أنا وأخي الأصغر، في بيت أمّي، نقرأ مقاطع من رواية ﻟ«ماركيز». أخي مولع بالأدب والفنّ، سمعنا طرقاً خجولاً على الباب، اندهشنا لأن الطارق لم يستخدم، دخل علينا ثلاثة من أصدقاء أخي، أحسست بأن حدثاً قد وقع، وثب قلبي من صدري، همسوا في أذن أخي، أخي صرخ وجرى، جريت خلفه بسرعة.
كشف الليل الحالك عن أنيابه، انطفأت قناديلنا ومحت جميع النجوم، صعدتُ سلالم المنزل المقابل لمنزلنا إلى أن وصلت إلى شقة أحد أصدقاء أخي، دخلت إلى الحجرة، وجدت أخي الآخر مسجّى على السرير، كان الضوء المنبعث من مصباح الردهة الخارجية ينسكب على وجهه الوسيم ذي الأنف المستقيم، تعلو وجهه ابتسامه هادئة، وجه اكتسته مسحة من جمال، كان وديعاً كطفل في حضرة الموت، لم أصرخ، لم أبكِ، كنت أرتجف، انحنيت عليه أفتش في جسده عن شيء ما يكون تسبَّب في رقاده بلا حراك إلى الأبد، أخذته في حضني، أمسكت بيده، وضعتها على بطني المنتفخة التي كانت تنوء بحمل، كنت أريده أن يشعر بنبض طفلتي التي لم تولد بعد.
انتبهت إلى صراخ أخى الأصغر، كان صراخاً يهزّ الجبل، تحوَّل إلى عويل ونحيب، أيّ صراخ ينبغي أن أطلق؟ وأيّة أكذوبة ينبغي أن أصدِّقها؟ وأيّة عدالة يجب أن أتبع؟ عدالة الموت؟ يالها من عدالة!
الظلام يتدحرج في عينيّ، وقلبي يحترق ويئنّ، عذاب حقيقي مرير، منذ تلك اللّحظة خيّل إليّ أن كل شيء يجري في عالم أخر، ولم يبقَ في عالمي إلا السكون العميق المظلم، الذى جعلني أتجرجر في الأزقة الملتوية، استيقظت أمّي على صوت رفاق وأصدقاء أخي وعويل أمّهاتهن، وسألَتْ: على من هذا الصراخ؟
قالت إحداهن: على ابنك!! سقطت أمّي بعد سماع الخبر، غابت عن الوعي، لاأعلم كم من الوقت مَرّ على استعادته مرّة أخرى، لم أقوَ على النّظر في عيني أمّي.
جاءت عمّتي، جلست في الصالة، صوتها خلا من اللوعة، ولكنه يحتشد بمرارة موجعة، ارتجلت عمّتي عَدّودة، وردَّدت النساء خلفها بقوّة:
قنديل منوِّر.. انطفا ضَيّهْ
سوق البحيرة مَلْتَقاش زيّهْ
قنديل منوِّر.. وانطفا نورهْ
سوق البحيرة مَلْتَقيت غيرهْ
يا مْغَسّلَهْ، قبل أن تبلّ الظهر
مَيِّل عليه وقول له: الغياب كم شهر؟
يا مْغَسّلَهْ قبل أن تبلّ إيديه
مَيِّلْ عليه وقول له: الغياب كدا ليه؟.
خرج عالم أخي كلّه يودّعه ويشيّعه بحرقة الدعوات والبكاء، كان النعش ملفوفاً بساتان أبيض، لأنه لم «يدخل دنيا بعد»، كان مازال عريساً، يزفّ إلى الموت، إخوتي تحوّلوا إلى تماثيل من الخشب فوق مقاعد خشبية، لم يكن رحيله إلا رحيلهم، لَطَشهم الموت وسكن داخلهم، صمَّمت أمّي أن يدفن جسد أخي في مقابر عائلتها لكي تُدفَن بجانبه. ظلت صورة أمّي، بعد وفاة أخي، صورة وحيدة مليئة بالأسى، أدركت أنها ليست أمّي التي أعرفها، اكتسى وجهها كآبة ووجوماً، تتنقل في البيت تائهة، تبحث عن ابنها المفقود الذى يناديها عبر سكون الليل، تبكي بلا دموع، أصابها الذهول، وازدادت صحّتها سوءاً يوماً بعد يوم، التزمت الصمت، سُرِق بريق عينيها، شيء مات في أمّي، وجعل روحها تخبو.
يظل هناك حنين حارق ومؤجّج للأحبّة الذين رحلوا، لاتستطيع يداي العاريتان أن تحجزا رجفات الألم المتَّصل في حشاي وكبدي، صرختي، في الليل، أسمعها أنا وحدي، ما زلت أسمعها، أتعثَّر، وأقع، وأشعر بالعار من كل ما تلمسه يداي، أريد أن أهرب بعيداً وأنهي هذا الشعور الموجع بالألم الممضّ الذي لاينقضي، هدّني موت أخي وتحمّلته بصمت، كتبت له رسائل كثيرة ومزّقتها، سنوات لم يأتِ في الحلم.. غاب عنى في الحياة وفي الحلم.
يتجسَّد المكان، ويتداخل الزمن، وتتوالى الصور، وتبقى مرارة الخذلان، وقلبي ما زال يحمل حرارة الألم المدفون وحزن العالم، تراكضت الصور في رأسي، شعرت بالغموض، كانت مشاعر مضطربة متداخلة، شعرت بالحصار وبانقباض صدري، وأحسست أن روحي محبوسة في بئر عميق.
أحاول أن أُقنع نفسي أن الزمن رفيق بالمعذَّبين المكبَّلين بالأصفاد الداخلية، أحاول أن أبتكر لحظة فرح، وأتخيّل أزهاراً مورقة، وانتصارات جديدة، وشمساً وكواكب أخرى.
ألم يمنحني الموت قدرةً على الصفاء؟ ألم أبحث- غريزياً- عن مظاهر الحياة في الأمكنة والحواسّ وفي أي شيء أنتمي إليه؟ دفعني الحرمان إلى البحث عن الماء لأروي به العطش الأبدي، وعن محطّات وعلامات أدخل وأخرج منها، ومرايا أكشف من خلالها عوالم لم تولَج بعد.
أنظر إلى صورة أخي التي أحتفظ بها في حقيبتي الصغيرة فتزداد قناعتي بأن الحبّ هو لهب القنديل القادر على إنارة كلّ سراديب الماضي، وإطلاق عصافير تغنّي بعذوبة وصفاء. ثمّة شيء على شرفتي المفتوحة لايدركه الحزن، طائر سنونو يفرد جناحيه المحمَّلتين بالشوق، يستعدّ لحمل رسائلي، من خزانة قلبي المواربة، إلى أخي الذي أفتقده كثيراً.
______
*الدوحة