د. العادل خضر*
قد تفاجأ وأنت تبحث عن صورة للفيلسوف الفرنسي بول ريكور(1913-2005) الّذي احتفت الدّوائر الفلسفيّة في الجامعات والمعاهد العليا والأكاديميات المختلفة من العالم بمرور مائة سنة على مولده (27 فبراير 1913) أنّ الغالبيّة العظمى من صوره الملتقطة والمنشورة في الصّحف أو على أغلفة كتبه، إنّما هي صور تعود إلى المرحلة المتأخّرة من حياته، وهو في بداية الشّيخوخة أو في أرذل العمر. ولا غرابة في ذلك فقد بدأت شهرة هذا الفيلسوف متأخّرة بعض التّأخّر، ولكنّها كانت تشقّ طريقها بين نجوم أهل الحكمة في فرنسا بثبات، فأضحى في العقود الأخيرة من عمره شخصيّة فكريّة معروفة في عالم الكتب تضاهي في اتّساع رقعة قرّائه أسماء من قامة ميشال فوكو وجاك دريدا وجاك لاكان وكلود ليفي ستراوس وجيل دولوز وجون بول سارتر وغيرهم من كبار الفكر الفرنسيّ من الّذين برزوا في النّصف الثّاني من القرن العشرين.
ولعلّ هذا التّأخّر النّسبيّ له ما يبرّره. فطول حياته النّسبيّ (92 سنة) وحياته الحافلة منذ نعومة أظفاره بالحوادث (موت والديه المبكّر) والأحداث الّتي ارتبطت بتاريخ فرنسا منذ الحرب العالميّة الأولى إلى العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، واتّساع مشروعه الفلسفيّ، وغزارة كتبه وحجمها الموسوعيّ، وتنوّع مشارب فكره، ومتابعته اللّصيقة بالقراءة المتأمّلة المفكّرة في كلّ ما يجدّ من انقلابات في عالم الفكر والفنّ والأدب والفلسفة والعلوم الإنسانيّة والسّياسة والدّين، وعسر قراءته بسبب ثراء المحتوى وتنوّعه المفرط، كلّ ذلك يجعل الإقبال على قراءة بول ريكور كمن يقبل على مغامرة مثيرة غير مأمونة العواقب. يكفي أن نقرأ هذه الفقرة الّتي كتبت بأسلوب الاعترافات حتّى نقف على حجم فلسفة بول ريكور وامتدادها الواسع اتّساعا حمل البعض من أشهر الفلاسفة على أن يقول معترفا: «وحتّى دون أن أعترف، فأنا أشعر بصدق بعدم كفايتي، فأنا أعتقد بأنّ قواي لم تخنّي أبدا مثلما خانتني وأنا أطرق في شكل دراسة أو مناقشة فلسفيّة أثر بول ريكور العظيم. فكيف يمكن أن نقتصر على موضع واحد من المواضع (الفلسفيّة)، أو محطّة واحدة من هذه المحطّات الممتدّة على مدى مشوار بهذا الطّول وهذا الثّراء، وعبر الكثير من المجالات والمواضيع والمسائل: من الإيطيقا إلى التّحليل النّفسيّ، من الظواهريّة إلى التّأويليّة، بله اللاّهوت، وعبر التّاريخ والمسؤوليات الّتي تقتضي منّا أن نتحمّلها كلّ يوم، منذ عقود، وعبر تاريخ الفلسفة، وعبر التّأويل الأصيل للكثير من الفلاسفة، من أرسطو أو القدّيس أوغسطين إلى كانط، ومن ياسبرس وهوسرل حتّى هيدغر أو لفيناس، دون أن نذكر فرويد أو دون أن نذكر كلّ الفلاسفة الأنقلوسكسونيّين من الّذين قرأ لهم ريكور، وهو أمر نادر في فرنسا، بشجاعة ويقظة، وحملنا على القراءة، ثمّ نعتبر ذلك داخلا في عمله الأشدّ جدّة؟ يبدو لي أنّ هذا الأمر عسير بله مستحيل إن كنّا لا نريد أن نخون في بضع صفحات وحدة الأسلوب، ووحدة المقصد، ووحدة الفكر، وكذلك وحدة العشق والإيمان، الإيمان المفكَّر فيه والمفكِّر، ووحدة التزام لم يتخلّ فيه منذ البداية عن أيّ وفاء، سواء أكان وفاء لنفسه أم وفاء للآخرين.». إذا علمنا أنّ صاحب هذه الكلمات وكاتب هذا الاعتراف هو جاك دريدا، وهو يقدّم هذه الشّهادة قبل سنة من مماته (2004) وسنتين من رحيل ريكور، وجب أن نتفّهم صعوبة تقديم فكر رجل خلّف لنا ما يقارب الأربعين كتابا منشورا دون ذكر ما تركه بعد مماته مخطوطا ينتظر التّحقيق والنّشر. إذا وعينا بهذه الصّعوبة فإنّه يمكن أن نبدأ في تمثّل ملامح هذا الرّجل الّذي بدأ القرّاء العرب في التّعرّف إليه منذ منتصف الثّمانينيّات تقريبا من القرن العشرين، ومن بوّابة التّأويل والهرمونيطيقا والدّراسات الدّينيّة. ولعلّ أبرز ملمح هو أنّ فلسفته في معظم ما كتب تقوم على القراءة المتفاعلة، ومحاورة كبار المفكّرين والفلاسفة في دقائق فكرهم. وقد جعلته هذه المتابعة المستمرّة للفلسفة والفلاسفة يقول إثر صدور كتابه «الأنا بما هي آخر» (1990) «هو تأمّل قد ورد متأخّرا جدّا، في نهاية مساري الفلسفي، لأنّني أردت أن أصفّي حسابي مع الآخرين ولكن مع نفسي، أي مع جميع أولئك الّذين تقاطعت سبيلهم بسبيلي طيلة ثلاثين أو أربعين سنة من العمل.». وإذا كان ريكور في هذا البوح يعرّف بشخص الفيلسوف فيه فإنّ مسألة تصفية الحساب تبدو أمرا غريبا عن عاداته، إلاّ إذا فهمنا من تصفية الحساب محاورته لآثار الآخرين من الّذين وجد في تفكيرهم مقاومة عالية لفكره، وحينئذ تصبح تصفية الحساب أسلوبا فلسفيّا طريفا جديرا بالمضيّ فيه وتعهّده. فمن يقرأ كتب بول ريكور لا بدّ أن يلاحظ أن لا كتاب من كتبه الغزيرة قد خلا من حوار مع شريك أو أكثر في نفس الفكر، كما لو أنّ عليه دَيْنًا وجب أن يقضِيَه عند أولئك الّذين التقى بهم أثناء قراءاته وحفّزوه على التّفكير. ولم أردنا ضبط قائمة الّذين قرأهم ريكور من الأحياء والأموات، واستدعاهم للمحاورة أو المجادلة معه فإنّها ستكون حتما قائمة طويلة طولا مفرطا. وهذا يدلّ على أنّ فيلسوفنا هو قبل كلّ شيء قارئ نَهِمٌ واسع الاطّلاع حتّى أنّ الأجزاء الثّلاثة من كتابه «قراءات» لم تكن كافية لتسع كلّ ما قرأ وتستوعب كلّ ما كتب. ولعلّ هذه القراءة المنظّمه الشّغوفة هي أبرز سمة طبعت عمله الفلسفيّ العظيم، وهي سمة قد تجلّت منذ كتبه الأولى الّتي صرفها لمحاورة كارل ياسبرس وقابريال مرسال إلى آخر مؤلّفاته «مسار المعرفة» الّذي نشر عام 2004 أي سنة واحدة قبل مماته.
من بين جميع الّذين رافقوا بول ريكور طيلة مشواره الفلسفيّ يظلّ سيجموند فرويد الوجه الفكريّ الأبرز. ذلك أنّ مشروع ريكور الهرمونيطيقيّ (التّأويليّ) قد تقاطع أكثر من مرّة مع مشروع التّحليل النّفسيّ. ففي بعض مقالاته الّتي نشرت بعد موته «القصّة: مكانها في التّحليل النّفسي» يذكر ريكور أنّ «التّحليل النّفسيّ هو هرمونيطيقا، بمعنى أنّ الإنسان هو كائن يفهم ذاته بتأويل نفسه، والصّيغة الّتي يؤوّل بها نفسه هي الصّيغة السّرديّة». هذا التّقاطع أو التّرافق قد بدأ منذ أن شرع ريكور منذ الخمسينيّات من القرن الماضي في تقديم تأويل ظواهريّ للاّشعور في سياق «فينومينولوجيا الإرادة» توّج بكتابه الضّخم «الإراديّ واللاّإراديّ» الّذي صدر سنة 1950 في جزأين. وقد تعمّق هذا الحوار وبلغ ذروته في السّتّينيّات بتأليف كتاب فلسفيّ عن فرويد بعنوان «في التّأويل، مقالة عن فرويد» صدر سنة 1964. ولكنّه لم يتوقّف بصدور هذا الكتاب. لأنّنا نجده في كتابه «نزاع التّآويل، مقالات في الهرمونيطيقا» (1969) يكتب دراسات في إبستمولوجيا التّحليل النّفسيّ. ولئن فتر اهتمام ريكور بالتّحليل النّفسي بسبب انقطاع حضور فرويد في أعماله اللاّحقة فإنّ الدّرس الفرويديّ ظلّ مركز تفكيره إمّا بالمصاحبة أو بالتّوجيه، إلى فترات متأخّرة من إنتاجه الفلسفيّ. نلمس آثار هذا الحضور في التّحوّلات اللاّحقة الّتي عرفها فكر ريكور. فمن فينومينولوجيا الإرادة (الخمسينيّات) حيث استعان ريكور بالتّحليل النّفسيّ لتأويل الرّموز والاستعارات، إلى المنعرج الهرمونيطيقيّ الّذي توّج باكتشاف «نزاع التّآويل» (السّتّينيّات) حيث كانت دراسة فرويد حاسمة، نراه في السّبعينيّات يمضي إلى محاورة الفلسفة التّحليليّة الأنقلوسكسونيّة الأمريكيّة بطَرْقِه «دلاليّة العمل» الّتي توّجت في (السّبعينيّات) بصياغة نظريّة إبستمولوجيّة في «القوس الهرمونيطيقيّ». وهو ما مهّد له في (الثّمانينيّات) من أن يهجم على النّظريّة السّرديّة وإثارة مسألة «الهويّة السّرديّة» الّتي أفضت إلى تطوير فلسفة الهويّة الإنسانيّة في كتابه العظيم «الذّات بما هي آخر». وأخيرا في (التّسعينيّات) بدأ ريكور يتأمّل في التّرجمة ويفكّر فيها بما هي تحدٍّ، وهو تفكير يحيل على نحو صريح إلى المتصوّر التّحليليّ النّفسيّ «عمل التّرجمة» الّذي استعمله فرويد في كتابه الشّهير «تفسير الأحلام» ولكنّه ارتبط عند ريكور بـ»عمل الذّاكرة» و»عمل الحداد» في آخر كتبه الضّخمة «الذّاكرة والتّاريخ والنّسيان» (2000).
ولئن كان ريكور في سنواته الأخيرة قد طرق موضوع «التّعرّف» بوصفه آخر المواضيع الفلسفيّة الكبيرة فإنّه في بعض كتبه الّتي نشرت بعد موته ككتاب «حول التّحليل النّفسيّ» (2008) تقدّم الدّليل القاطع على أنّ حوار ريكور مع فرويد قد استمرّ إلى آخر مشواره الفلسفيّ. هذا الحوار يشهد إلى جانب حوارات أخرى (مع لفيناس وغريماس ودريدا وغادامير وأرندت وفون رايت وبولتمان…) على أنّ فلسفة ريكور قد تغذّت طوال عقود من جولاتها المختلفة في هوامش الفلسفة، تلك الهوامش الّتي يحتلّ فيها الأدب والتّحليل النّفسيّ مكانة ملكيّة.
فلسفته تقوم على القراءة المتفاعلة ومحاورة كبار المفكّرين والفلاسفة في دقائق فكرهم
……………
ريكور قارئ نَهِمٌ ولعلّ القراءة المنظّمه الشّغوفة أبرز سمة طبعت عمله الفلسفيّ
………………
من بين جميع الّذين رافقوا بول ريكور طيلة مشواره الفلسفيّ يظلّ سيجموند فرويد الوجه الفكريّ الأبرز.
________
*الاتحاد الثقافي
________
*الاتحاد الثقافي