الألم في قصيدة “رسالة من المنفى “لمحمود درويش



* هشام ناجي


خاص ( ثقافات )

في اغسطس من العام 2008 وبمستشفى بارد بما تحمل البرودة من وجع البعد عن الوطن انتقل الى عالم البقاء شاعر اتخذ من الكلمة سلاحه لمجابهة طغيان ومادية هذا العالم .اليوم تحل ذكراه المغلفة بطعم الوحدة والصمت ، انه الشاعر الفلسطيني الايقونة محمود درويش الذي انفردت أشعاره عن باقي التجارب الشعرية المعاصرة بقدرتها اللامحدودة على مصاحبة الالم حتى كادت هذه التيمة ان تطغى على جل قصائده . 
قصائد محمود درويش في مجملها تزاوج بين ألمين :ألم الذات ووحدتها في عالم يفتقد للرحمة والاحساس بقيمة الكلمة ،وألم الوطن الذي كان ولا يزال ينزف دما وحرمانا وقهرا وعزلة .
في قصيدته “رسالة من المنفى “يكاد ينصهر الألمان معا ليختزلا حياة هذا الدرويش الذي توقف قلبه فجأة عن النبض من وجع الألم فالشاعر يتوارى لحظة ليترك لمحمود الانسان حرية عزف اوبرالي حزين لحياة سريالية تأبى الخضوع لقاعدة.
القصيدة دفقات من المشاعر ولمسة حب دافئ يبث من خلالها شاعرنا المنفي لواعج عشقه وحنينه للوطن (اهلا وأحبة وشوارع ..) فرغم تباعد المسافات يتصاعد الشوق كلحن حزين لتكون الرسالة وسيطا لنقل العاطفة والتبليغ بألم دفين ،لكن الشاعر ومنذ البداية يباغت بالخيانة فاللغة عصية عن الانصياع والخضوع والكلمات عاجزة على ان تهب سحرها ووهجها في لحظة تخبط درامي تغيب فيها البداية . 
وحتى بعد ان تستسلم هذه اللغة بحذر تستحي في وهب مفرداتها لمحمود مما عمق الجرح وضاعف المعاناة .
بوجع فلسفي يستهل الشاعر قصيدته تاركا للسؤال فرصة للتسلل الى ثنايا النص ليجد القارئ نفسه في دوامة من الاسئلة المؤرقة فالسؤال احيانا اعمق من الاجابة وتحريض للعقل على انتهاك جريمة التفكير .
من أين ابتدئ ؟ واين انتهي ؟
ودورة الزمان
دون حد
وكل ما في غربتي
زوادة ،فيها رغيف يابس
ووجد
ودفتر يحمل عني بعض
ما حملت
بصقت في صفحاته ما ضاق
بي من حقد
من اين ابتدئ؟
تساؤلات تضعنا أمام مشهد درامي لبطل تراجيدي اختار مواجهة قدره ومصيره تاركا للبوح مساحة لتصوير حياة عبثية لم يجد من يشاركه قساوتها ويبثه ألمها سوى الام التي تتقنع احيانا بوشاح اعمق مختزلة الوطن .
و صرت شابا جاور العشرين
تصوّريني … صرت في العشرين
و صرت كالشباب يا أماه
أواجه الحياه
و أحمل العبء كما الرجال يحملون
و أشتغل
في مطعم … و أغسل الصحون
و أصنع القهوة للزبون
و ألصق البسمات فوق وجهي الحزين
ليفرح الزبون.
ما بين يأس وأمل تتراوح حياة الشاعر في المنفى لتكون هذه الرسالة شعلة قلقه في لحظات ظلمة وحصار نفسي باثا فيها كل نزعاته التشاؤمية التي أنتجها منطق الحياة ليترك للضعف الانساني فرصة للمكاشفة والحضور .
ماذا جنينا نحن يا أماه ؟
حتى نموت مرتين
فمرة نموت في الحياة
و مرة نموت عند الموت!
هل تعلمين ما الذي يملأني بكاء ؟
هبي مرضت ليلة … وهد جسمي الداء !
هل يذكر المساء
مهاجرا أتى هنا… و لم يعد إلى الوطن ؟
هل يذكر المساء
مهاجرا مات بلا كفن ؟
تساؤلات مشروعة في عالم يفتقد الى الحس الانساني لا يترك للشاعر مجالا الا ان يتخيل سيناريو محتمل لحياته المستقبلية فالوطن بعيد وبينه وبين الامل مسافة تزداد كل يوم ،ليظل المهاجر بلا وطن ولا علم باحثا عن قيمته في زمن اختلت فيه القيم .
ما قيمة الإنسان
بلا وطن
بلا علم
ودونما عنوان
ما قيمة الإنسان
ما قيمة الإنسان
بلا وطن
بلا علم
ودونما عنوان
ما قيمة الإنسان
رحل درويش في مثل هذا اليوم وتوقف قلبه فجأة من الألم وهو الذي كان يبحث عن وطنه في كل الاوطان حاملا معه أرقه الوجودي بثه في قصائده الخالدة ولعل قصيدة “رسالة من المنفى” احدى تلك البصمات التي ميزت الرجل وطبعته في ذاكرتنا كشاعر بوهيميي داب عشقا في الوطن وحمل معه حلما لعله يتحقق او تذروه الرياح ككل الاحلام .
__________
*كاتب من المغرب 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *