*د.شهلا العجيلي
بدعوة من الأكاديميّة البروتستانتيّة في هوفجايسمر ودار علاوي الألمانيّة للنشر،و دعوة أخرى من بلديّة هايدلبرج بالتعاون مع جمعيّة أصدقاء الفنّ والحضارة العربيّة، شاركت بمجموعة من الندوات والمحاضرات حول الثقافة العربيّة وحول أثر الحراكات والحروب الأخيرة على الكتابة الروائيّة بعامّة، وعلى نصوصي بخاصّة، ولا شكّ في أنّ الأسئلة حول الوضع السياسيّ والديموغرافيّ العربيّ الأوربيّ كانت تلقي بثقلها على الشاغل الأدبيّ، وأنّ قضيّة اللاجئين كانت المؤرّق الأكبر للحضور، فألمانيا تعدّ البلد الأكثر حماساً لللاجئين، وقد استقبلت أكبر عدد منهم، وفتحت لهم بيوتها وممتلكات بلديّاتها حتّى في أجمل المواقع، وتدفع بطلتها ميركل اليوم فاتورة سياسيّة باهظة يستغلّها خصومها السياسيّون في الداخل استغلالاً فادحاً. لكنّ الأفراد والجمعيّات، بوصفهم قوّة اجتماعيّة حيويّة، مستمرّون في دعم اللاجئين، إذ مازالت جراحهم التي سبّبتها الحرب العالميّة الثانية طريّة، وما زالت ذاكرتهم طازجة تجاه أهوالها. كانوا في الندوات التي حضرتها يروون حكايات آبائهم وأجدادهم، بل كان من جمهوري كثر ممّن عاشوا طفولتهم في الحرب، وحكوا لي حكايات قد تستقرّ يوماً في صفحات رواية قادمة! قابلت أيضاً أبناء للاجئين ومهاجرين من أوربة الشرقيّة، ومن الدول الشظايا التي خرجت من جسد الاتحاد السوفيتيّ، وكان القلق المشترك أصيلاً في الأماسي حيث تطلّ برأسها عبارات تحمل مفردة الإرهاب، وحيث تخبّر لاجئة فلسطينيّة- سوريّة قصّتها فتقول: “لقد كتبوا على البطاقة الخاصّة بي: (بلا وطن)؟! كيف أكون بلا وطن! فكلّ ما أعرفه أنّ لي وطنين: فلسطين المحتلّة، وسورية التي تصارع من أجل البقاء!”.
ليست أحاديث السياسة مكسباً لي، ولم تعد تجذبني منذ أن صارت عمل من لا عمل له، وكلاماً مجتثّاً من الواقع، ومن أصوله الثقافيّة والمنطقيّة مثل شجرة تخرج في أصل الجحيم، وطلعها رؤوس شياطين، لاسيّما أنّ آرائي السياسيّة لا تعجب أحداً، فالجميع ينتظر منك تأييداً لوجهة نظره، وهذا ما لا أمتلكه، لكن ما يجعلك تتأكّد من أنّك لست وحدك هو أن تجد بين الفينة والأخرى في سيرة حياة أحد المنوّرين دعماً لرؤيتك، وهذه المرّة كان غوته رمز التنوير الألمانيّ: “إذا ما أراد الشاعر الاشتغال بالسياسة بات عليه أن يهب نفسه لحزب من الأحزاب. وما يفعل هذا حتّى ينتهي من حيث هو شاعر، إذ يصبح عليه أن يودّع فكره الحرّ ونظرته المستقلّة، ويلبس طاقيّة ضيق التزمّت والكراهية العمياء على رأسه حتّى أذنيه”.
“إذا ظلّ الشاعر طوال حياته يجتهد في مكافحة الأحكام المسبقة الضارّة، والقضاء على الآراء المتزمّتة، وتنوير عقل شعبه، وتنقية ذوقه، والسموّ بطريقة تقديره وتفكيره، فهل هناك ما يمكن أن يفعله أفضل من هذا؟”.
حين غزا نابليون ألمانيا وتمّ لومه على عدم حمل السلاح والمشاركة في الحرب، قال لصديقه إيكرمن: “إنّ عالم هؤلاء عالم لا معقول..كيف يمكنني أن أشهر السلاح دون كراهية؟…أمّا أن تكتب أناشيد الحرب وتظلّ قابعاً في حجرتك فليس هذا ديدني… ومثل هذه الأناشيد كانت ستبدو كقناع لا يناسب وجهي إلاّ على نحو شديد السوء”.
في قصيدته “كتاب الخلد” من “الديوان الشرقي” يشير غوته إلى مفهوم الجهاد، لكن يجد له دلالة أخرى بعيداً عن قتل الآخر المختلف معك عقديّاً، أو فكريّاً، فالجهاد هو أن تكون إنساناً، وهذا المعنى يلتقي تماماً مع الدلالة اللغويّة للمفردة، والتي تنطوي على المكابدة والمشقّة، نعم نحن نجاهد للإبقاء على العنصر الإنسانيّ فينا، لذا يطلب من الحوريّة أن تسمح له بدخول الجنّة مع المجاهدين: “لأنّني كنت إنساناً وهذا يعني أنني كنت من المجاهدين”!
صاقب وصولي كولونيا أولى مباريات ألمانيا في كأس الأمم الأوربيّة، وكانت أمام أوكرانيا، وقبل بدء اللعبة بساعات كان السيّاح وغيرهم يصلّون بخشوع في صمت مطبق يلفّ أبّهة الكاثدرائيّة الكاثوليكيّة، (بيتر وماريّا دوم)، المبنيّة على الطراز القوطيّ، والتي تعدّ النموذج المعماريّ لتصميم الكنائس في أوربة، حيث رفات المجوس الثلاثة الذين تنبّؤوا بميلاد السيّد المسيح، وستجد في إيوان الكاثدرائيّة عروضاً لمشاريع ودعوات للتبرّعات لللاجئين القادمين من كلّ مكان، وثمّة مجسّم لسفينة كبيرة تشير إلى الرغبة في تخليصهم من مأساة غرق الهجرات غير الشرعيّة، في حين تقرع في الساحة العظيمة الأجراس، ومعها يصيح المتحمّسون:ole, ole ole ole..we are the champions
يثير ذلك كلّه لذّة جماليّة إذا ما حلّلناها سنجد مرجعها إلى الشعور بالانتماء الآمن، انتماء بلا عبء القتل والموت، هذا الانتماء الذي غاب عنّا منذ سنوات، إذ نعيش انتماء مع كثير من الفجائع، انتماء يفتقد إلى العنصر الجماليّ. معظم الذين حضروا محاضرتي في هوفجايسمر زاروا الشرق، لا سيّما سورية والأردن وفلسطين ومصر، وخدموا في مواقع دينيّة وأثريّة وأكاديميّة، وكانوا يريدون أن يسمعوا عن حياتنا التي تنتمي إلى ما قبل اللجوء والحرب، وقصصاً أخرى على ألسنة أشخاص ما يزالون في أوطانهم، كانوا يتشكّكون في روايات اللجوء، وكان هذا مؤلماً بالنسبة لي، فالموتى والغرقى والجرحى والغائبين لا يملكون قول رواياتهم الحقيقيّة، لكنّ غيرهم يتاجر بها!
وقت المباراة تفرغ الشوارع، فأحنّ إلى أيّام كانت معاركنا تتوقّف عند تشجيع فرقنا الرياضيّة المتنافسة. تجوّلت رفقة إحدى العائلات وقد تعرّفت إلى ابنتها العشرينيّة، فقال لي الأب: “ما لا تعرفه ابنتي أنّني ابن لمهاجر هنكاريّ، جاء أيّام الحرب العالميّة الثانية في رحلة قاسية وطويلة، حتّى استقرّ به المقام هنا في هايدلبرج.”. لم يعرّف الأب ابنته على تاريخ جدها القريب جدّاً، إذ قال إنّه ليس من الضروريّ أن يحمّلها عبء تلك المعاناة، هي ألمانيّة وليس عليها أن تفكّر في غير ذلك!
أعرف أنّه سيتبادر إلى ذهنكم مباشرة المفارقة التي خطرت لي: نحن نحمل عبء آلاف السنين، عبء حروب لم نرتكبها، وأقوال لم نقلها، وربّما أفكار لم نؤمن بها أو نطبّقها، فكيف لا نتعب، ونكتئب ونيأس… وهذا التاريخ كلّه يفتك في دمائنا!
______
*عمّان.نت