ذاكرة الحرب المبتورة


*عبد الرحيم التوراني


خاص- ( ثقافات )
أنا الوحيد الذي يعرف الحقيقة، لكني عاجز عن الجهر بها، وخائف من الوقت الذي يمر مسرعا، ومن السنوات التي تتبدد كغيوم صيف. والمنتحل يكبر في العمر ويغير من ملامحي، لن أعرفني حين تنجلي الحقيقة ويحين الموعد لأبصرني.
انتصر علي، واضح أنه يرغب في جنوني، في هلاكي، لم يعد لدي شك في تآمره، والأصح: لم يعد لدينا أنا وهو شك في ذلك. أعترف أنه غلبني بالضربة القاضية، لم أعد أتعرف على من هو الآخر فينا.. أأنا أم هو؟
تساءلت كثيرا عمن يكون؟ 
من أرسله للقضاء علي؟
هل جننت؟ أم أنا سائر في طريقي إلى الجنون؟
فتساءل معي، كالصدى صار، أو صرت أنا صداه. ما علي إلا أن ألوذ بالصمت ليسبقني إليه…
أمشي، يمشي جنبي، أقف، يقف أمامي، أجلس، يقتسم معي مجلسي، لقمتي، كأسي، سجائري، أفكاري، هواجسي وظلي، أتكلم يردد نفس كلماتي، أصمت يلتزم السكوت.
تهت به في الأسواق وفي الأزقة وفي الشوارع الخلفية للمدينة، لعلني أرهقه وأتعبه، ظل ملازما لي، لما هبط الليل فكرت أن أهبط مع “صاحبي” إلى ملاهي الشاطئ البعيد، هنالك شرب حتى سكر، غنى ورقص وداخ. تركته في عهدة ماكرة لعوب، وعدت هاربا إلى شقتي، أغالب التعب والإنهاك والضجر، وجدته سبقني أمام باب الشقة ينتظرني.
آآخ.. من سينقذني من هذه اللعين؟ 
نعم أنا ممثل مسرحي، أحببت مهنتي ولها أخلصت، لعبت على امتداد سنين وبمهارة عالية كل الأدوار التي أسندت إلي. الجمهور دائما كان يصدقني ويحبني، وأنا دائما كنت أقنعه بروعة الأداء، بل أبهره، وعندما أغادر باب المسرح أترك الشخصية التي أتقمصها وراء أسواره، لأمارس حياتي العادية بكل حرية كأرمل قديم…
منذ بضعة أيام أسند إلي دور جديد في مسرحية جديدة، كالمعتاد جلب أدائي الإعجاب والتصفيقات، وتلا ذلك تنويه الصحافة والنقاد. لكني لم أعد أنا هو أنا، لم أستطع التخلص من الشخصية الجديدة التي أقوم بدورها على المسرح. 
اتصل المؤلف المسرحي بالمخرج واجتمعا برئيس الفرقة، وكان الاتفاق هو إعفائي من الدور ومنحي عطلة مفتوحة، وطبعا البحث عمن يعوضني حتى أشفى. أصبحت مصابا بداء يسمى الشخصية الغريبة التي أمثلها. يا للعنة…. 
وأخيرا.. قلت سأختلي بنفسي، كنت مرهقا فنمت، لما أفقت ألفيت المعني بالأمر نائما جنبي، تفوح منه رائحة التعب والإنهاك والعناد، استسلمت لقدري وعدت إلى فراشي. فكرت في الاستسلام، قلت له لقد هزمتني، أنا طوع حماقاتك، افعل بي ما تشاء. التفت إلى من دون اكتراث، سلمني بطاقة صغيرة وانصرف، قرأت على البطاقة اسما ورقم هاتف محمول، لما اتصلت بالرقم ردت على ندائي العلبة الصوتية: 
– لا يوجد أي مشترك في الرقم الذي تطلبونه، المرجو التأكد من رقم مخاطبكم. 
أعدت قراءة الاسم ورقم الهاتف، وجدته اسمي مع رقم تليفوني الخاص. هرعت إلى الخارج، لا أعرف ماذا سأفعل بنفسي، اتصلت ببعض أصدقائي ومعارفي فأنكرني جلهم. وعلى شاشة التلفزيون بالمقهى شاهدت صاحبي في برنامج إخباري يتحدث عن الشخصية التي يؤدي دورها في المسرحية الجديدة. رفعت صوتي صائحا في رواد المقهى إنه كاذب ومنتحل، فلم يبال بكلامي أي أحد. طالبني النادل بأداء ثمن قهوتي بدل تمثيل دور المجنون. لم يبق أمامي سوى اللجوء إلى البوليس، هناك نسيت اسمي ومهنتي وعنواني والهدف الذي أتيت من أجله، اعتبروني فاقدا للذاكرة، وبدأت رحلة البحث عن هويتي وعمن أكون. 
أنا الوحيد الذي يعرف الحقيقة، لكني عاجز عن الجهر بها، وخائف من الوقت الذي يمر مسرعا، ومن السنوات التي تتبدد كغيوم صيف، والمنتحل يكبر في العمر ويغير من ملامحي، لن أعرفني ولن أتعرف عليه حين سنلتقي لأسترجع منه جسدي وذاكرتي المسروقة.
في المساء ذهبت إلى المسرح، قلت لأسترق النظر إلى الممثل الذي يلعب دوري في المسرحية، دور رجل بترت أطرافه في جبهة الحرب. أبهرني أداء الممثل، أغبطته، قلت لقد تفوق علي اللعين. لما عدت لمشاهدته مرة أخرى، فوجئت بتغييره بممثل جديد. 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *