هكذا تحدث الطاهر وطار بلسان أبطاله



د- محمد الأمين بحري

خاص- ( ثقافات )

*- بوالارواح في رواية “الزلزال” – مسارات العقم والعدم والقطيعة.
حينما نلتقي بوالارواح بطل رواية الزلزال، نجد أنفسنا إزاء بطل فصامي التركيب، يتنكر عالمه الخارجي المنبوذ لعالمه الداخلي الموعود، مما جعله قنبلة موقوتة تتحسس أوان الانفجار في أي منعرج من منعرجات الرواية.. داخلياً يسكنه مشروع جنة موعودة تزهر فيها حقوله و أراضيه اللامحدودة التي ورثها عن أسلافه القيّاد، و يبتغي فيها إتمام وصية الأمجاد، يجد نفسه إزاء عالم خارجي يهدده بالعقم والبوار و انقطاع النسل والانبتار.. ويتوعده باستئصال شأفته و فكره، بل وطبقته الإقطاعية من جذورها.. وهذا ما أشعل فتيل القنبلة التي بدأ خيطها الخارجي يتآكل وتلتهمه النيران، و محتواها الجهنمي يتأجج حقداً و يتوعد العالم الخارجي بانفجار مهول لا يبقي فيه احداً من سكان قسنطينة التي جاء إليها باحثاً عن حفيد يرث أراضيه.. ويحيي ماضيه ، فما كان من هذه المدينة إلا أن سلمته للتيه في شوارعها، واستفزته بالزيف الذي طال معالمها، و التهتك الذي تصدره شوارعها و ازقتها، مما فاقم من غيضه و فجر براكينه حمماً على الجميع.. فلم يجد من يشكو إليه مأساته، ولا من يشاطره معاناته سوى أوليائها الصالحين الذين اعتقد بأنهم يحرسون المدينة و يقاسمونه جور الزمن و هجران القيم. وهاهو يشكو إلى أحد أوليائها الصالحين (سيدي راشد) الذي تقلد اسمه أكبر جسور قسنطينة.
يشكو بو الارواح مغيثه سيدي راشد ولي المدينة و حارسها، الذي شاء له الطاهر وطار أن يبقى كآلهة خرساء تسمع ولا تلبي نداء المستغيث: ” أرحها من الرعاع الذين يدنسونها بأبدانهم النجسة و بأفعالهم المنكرة، سلط عليهم “طَيْراً أَباَبِيْلَ تَرْمِيْهِمْ بِحِجاَرَةٍ مِنْ سِجّيِلْ”. ابدأ من هنا من الأسفل واصعد إلى قلبها و طهره “(1).
وحين يلتفت يجد الأولاد الطائشين يدورون حوله و يجاذبونه ملابسه و هم يتصارعون حول من يظفر بمسح حذائه، و ما يلبث يلفي نفسه طريدة مساحي الأحذية الأشقياء و فريسة يطاردونها حيث حلت.. فينبرى موجهاً لاذع سبابه، و نافثاً زعاف سمومه في وجوههم: – ” مسحكم الله من أرضه الطيبة يا نسل الإثم و الرجس.”(2).
أما حين تحاصره مظاهر الزيف والروائح الكريهة و لغط الصبان، فإن الدنيا تتحول إلى دوامه تموج به، ليقف في ساحتها، و يستصرخ ربه، حين يتنكر له الأولياء ، عساه يرحه بنسف هذه المدينة السدومية الآثمة: “يا جهنم افتحي أبوابك وابتلعيهم واجعليهم وقوداً أبدياً لك.(…) يا سيدي راشد يا صاحب البرهان استجب لدعوة الحضري في مقهى النجمة: حركها بهم و بمنكرهم و فسقهم”(3).
و تارة أخرى: “يا نسل السوء يا بذور الشر سلط الله عليكم وباء الطاعون….وابتلعكم وادي الرمال.”(4). و ثالثة: ” اللهم لا تبارك لهم في تجارة أو سعي، واقطع دابرهم…”(5).
و من النص القرآني يستعير دعوة النبي نوح على قومه ليختتم بها خطابه الإداني الناقم: “رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكاَفِرِيْنَ دَيَّاَراَ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوْا إِلّاَ فَاَجِراً كَفَّاَرا”(6).

ولما لفظته مدينته، و تنكر له أناسها وأولياؤها وحراسها، و انقلبت عليه دعواته وبالاً، وجد نفسه مسحوقاً ومغترباً وسط ما يراه فساداً عارماً للبلاد والعباد، لم يجد إزاءه من سبيل سوى الانتحار على نمط الأبطال ثوريين، لكنه يُحرم هذه النهاية أيضاً، حين تدخَّل رجال الشرطة و منعوه من تحقيق خلاصه بيده، و ساقوه معهم واختفوا. لتنتهي الرواية على مشهد حرمان هذا البطل المستأصل حتى من الحل الانتحاري الانتصاري الذي خلدته الرواية الواقعية الاشتراكية، و شذ هو عنه انتقاماُ ونكالاً.
تبدو نكادية البطل بوالارواح مبررة فنياً وفكرياً على أكثر من صعيد، فحين يريد أن يكون أسطورياً، تخذله الأسطورة، و تخونه نماذجه البدئية(7) التي تغنى بها طوال رحلته الممتدة من الأجداد الذين أورثوه زخمهم الحضاري و الثقافي إلى الأحفاد الذين يمثلهم و يطلبهم. وحين يريد أن يكون ملحمياً تخرس آلهته، التي حل الأولياء الصالحون محلها في الرواية، باعتبارها السند الميتافيزيقي للبطل، علماً أن الآلهة هي من أنقذ أبطال الإغريق في الملاحم، و حرم منها أبطال الرواية التي قال جورج لوكاتش، في حقها بأنها: “ملحمة عالم هجرته الآلهة”(8). وحين يريد الخلاص على طريقة أبطال المدونات الروائية الكبرى، يفشل حتى في مخرج الانتحار. لتتكرس المحنة الوجودية بأقتم الألوان، و ينداح التأويل بالعالم الروائي إلى الفلسفة الوجودية، لما صارت أزمة البطل في عالمه إلى هذا المآل، ولعل هذا ما أسست له الروائية منذ بدايتها، لتكرس خطاباً وجودياً ناقداً لفن الرواية من حيث بناء البطل، و للسياسة من حيث أزمة البطل، و للتاريخ من حيث اللغة الرمزية في خطاب ومخاطبة البطل.
** – اللاز : البطل المتوالد..
تشهد روايتا اللاز و العشق والموت في الزمن الحراشي، ولادات متعددة الأوجه لبطلها الإشكالي نصمفها على الشكل الآتي:
– الولادة الأولى:
تشهد رواية اللاز للطاهر وطار أول ولادة لبطلها “اللاز”، وهي ولادة غير شرعية 
جعلته في منظور مجتمعه شخصاً مريضاً، مجنوناً لا سبيل إلى شفائه من شذوذه و شروره الفطرية. فمن ولد غير شرعي لا يمكن أن يكون شرعياً في يوم من الأيام.
بينما يرى اللاز أنه يرزح تحت قهر المجتمع منذ رأى النور، و كونه ابناً غير شرعي فهذا ليس بيده، و هو معنى جوابه الفظ لأمه:” وهل اقترحت أنا ذلك يا عاهرة؟؟”(9). متبرئاً من عار جريمة لم يقترفها بالفعل فكيف تلتصق به بالقوة؟ 
وهنا يتبدى أول معاني نعمة الأصالة و معضلة افتقادها، التي تزج بالبطل في مسيرة انتقامية من مجتمعه جعلته يعتنق خدمة عدو هذا الشعب، و لقي بنفسه في حضن المستعمر وخدمته لما فقد الأمان والأصالة و الرحمة في مجتمعه.
غير أن هذا المجتمع يعيد إلى هذا الولد الضال أصالته حينما يبدي الأخير ليونة في العودة إلى بيته، باحثاُ عن أصالة مفتقدة، فيمنحه المجتمع وسام الأصالة حينما كلفه المجاهدون بأول مهمة جهادية حمل فيها كلمة السر القائلة: “ما يبقى في الواد غير احجاره”. الت ييشهد بها اللز ولادته الثانية الأصيلة.
– الولادة الثانية:
“ما يبقى في الواد غير احجاره”. عبارة ملغمة تتلفع بمثل جزائري سائر يقول في ظاهره: بأن كل ما يدخل الوادي من محمولات دخيلة ليست أصلاً فيه فإن مصيرها الانجراف و الزوال مع أول حملة من حملاته الكاسحة، ولا يبقى بعدها سوى بنات الوادي وهي حجارته الأليفة التي لا يعترف بغيرها سكاناً له.. 
غير أن باطن هذا المثل الشعبي الذي يصول ويجول في فضاء الروايتين باحثاً عن معان ضافية يرسو عليها، يحمل دون شك أكثر من مدلوله الأنثروبولوجي المضمخ بمعاني الأصالة و التشبث بالجذور في الثقافة الشعبية الجزائرية، لأن وظيفته في رواية اللاز تعلقت باستعماله ككلمة سر بين المجاهدين أيام الثورة، وهي أول كلمة رددها اللاز حينما تم تكليفه بأول رسالة جهادية افتتح بها مشواره النضالي، فكانت رمزاً لتحول مساره من العمالة إلى الجهاد، و من نغولة النسب إلى شرف النسب(حينما تعرف على أبيه الحقيقي زيدان في بداية مشواره الجهادي)، ومن التيه إلى وضوح الرؤية في مسيرة حياته، ولعل المعنى الأكبر الذي صير هذه المقولة مقدسة لدى حاملها(اللاز) هي أنها منحت لحياته المعنى الذي افتقده قبل أن يتقلدها وساماً منحه ولادة جديدة تعاكس ولادته المشوهة الأولى. وتقوده إلى ولادة ثالثة ترسم معالم مساره المأساوي.
– الولادة الثالثة:
تبدأ الولادة الثالثة للبطل “اللاز” حينما يشهاهد منظر ذبح أبيه الشرعي “زيدان”، هناك تهاوى اللاز على الأرض فاقداً وعيه، وفاقداً بذبح أبيه نهاية قصة أصالته وانقطاع آخر خيوطها التي تشبث بها لإثبات هويته البشرية الأصيلة. وبهذا المشهد الذبائحي تنتهي رواية اللاز الذي يغادرنا فيها بطلها مغشياً عليه ولا يستفيق إلا في الرواية القادمة للطاهر وطار: “العشق والموت في الزمن الحراشي”، التي يمكن أن تعتبر الجزء الثاني لرواية اللاز. هناك أين نلتقي بطلنا اللاز لكن في صورة ثالثة مغايرة تماماً لصورتي الولادتين السابقتين، حيث يواجها شخصاُ مجنوناً، جراء مشهد ذبح أبيه زيدان امام عينيه.
لكنه في هذه الحالة يصبح درويشاً تتبرك به نساء القرى والمدن، وتلبسنه فوق ثيابه الرثة ثياب القداسة و البركة ليغدو قطباً ربانياً من أقطاب المتصوفة يضاهي لدى العوام شخصية سيدي عبد القادر، التي تقي من كل مكروه، وتحاك حولها أعجب الأساطير في طلب الشفاء حتى من العقم والمرض و المس: ” يا سيدي يا شفيع المغلوبين، الملائكة تسبح لك و الروح و الجن و العفاريت، تخدمك مطيعة ذليلة، و النجوم و الكواكب تنتظر كلمة منك لتعلن على ساعة الفناء. يا من لم يكن لك أب أو ولد. و لا أم و لا سند، يا من خرجت من شعاب الخلود جسداً يضم كل أرواح الطاهرين و الصالحين. يا ولد سيدي عبد القادر الجيلاني، يا سيدي اللاز، يا سيد الخير، يا مولا البرهان. جئتك. قصدتك. و ليس لي من مقصد. أستغيث بك و أستجير . ألطف بي و بالسبعة الذين ورائي يا سيدي اللاز”(10). وفي مشهد نوراني متعالي نلفيه هناك: ” في غرب الغرب حيث لا نور إلا نوره. و لا صوت إلا صوته. و لا رحمة إلا رحمته”(11).
لنشهد في الولادات المتعاقبة لهذا البطل، ثلاثة أضرب من التسامي مختلفة التشكيل؛ حيث تسامى في ولادته الأولى عن المجتمع الظالم الذي حرمه الوجود الأصيل، ليرتقي في نظر جنود العدو الفرنسي، فيظهر شخصية متمردة لا منتمية.
ثم ما يلبث أن يتسامى عن وجوده غير الأصيل في حضن المستعمر، ليبلغ أصالته المنشودة بعودته إلى حضن مجتمعه و بين نخبة المجاهدين الثوار الذين أهدوه شرف النسب إلى أب مناضل من قيادات الثورة.
ونجده في ولادته الثالثة شخصية، نالت التعالي والقداسة بعدما فقدت العقل، وهي آخر صور التسامي التي اعتنقها البطل ليتماهى مع كل القيم المجردة التي تهفو إليها الشعوب، لترتسم صورته النهائية في آخر صفحات رواية العشق والموت في الزمن الحراشي لتي يختتمها الطاهر وطار بقوله: ” في كل قرية و في كل مدينة لاز. و لا يعقل أبداً، أن تبقى قريتنا بلا لاز (…) أن اللاز هو الشعب. و أن الشعب هو المستقبل. و أن الإيمان بالمستقبل، هو سلاح كل مناضل و مناضلة”(12)، وهو تسام ينتقل به اللاز من ممثل لشخصية بشرية ارتحلت معنا من رواية إلى أخرى، متحولاً إلى قيمة اعتبارية متعالية مكانها بين القيم السامية التي تنشدها الشعوب المتحررة.
* * *- الولي الطاهر يرفع يديه باللعنة
في رواية يتساوى فيها الدعاء باللعنة، في زمن التبعية و الانمساخ يقول الطاهر وطار:
” هنا في زمن الوباء الذي عم، ليس فقط العالم العربي، إنما العالم الإسلامي، زمن صار فيه العرب و المسلمون جنداً للمسيحيين، يحملون أسلحتهم، و يلبسون ألبستهم، و يروجون لعقائدهم”(13). و يواصل وصف زحف الوباء على ما تبقى من قيم هذا العصر لذي انخرط في أزمنة الرذيلة: “كالجرب سرت عدوى الفسق و الفجور، و الاستخفاف بكل قيم الأولين. لكن الناس لم يعودوا يحكون جلودهم..أولو الأمر بثوا أجهزة سموها تلفزات، يملأونها بذواتهم و ببنات مسلمات عاريات متبرجات، و بما يمدهم به النصارى و يصنعونه هم من أفلام ملأى دعارة و فحشاً (…) هذا هو عرض الوباء الفتاك الذي ألم بنا”(14).
و لا ينهي وطاهر روايته إلا رافعاً يديه بالدعاء… دعاء يتكرر كاللازمة في كل فصل على لسان الولي الطاهر: “ياخافي الألطاف نجنا مما نخاف”..”ياخافي الألطاف سلط علينا ما نخاف”.
دعاءان متناقضان، لكنهما يتآلفان في خطاب الرواية ليتوحدا في المعنى و الدلالة الثائرة، التي يتلبس فيها الدعاء للذات ثوب اللعنة، و الدعاء على الذات ثوب اليأس الذي ينتظر للعنة أيضاً.
* ** *- “الشمعة و الدهاليز” – مناحة الأحلام الوئيدة
يقول بطل الرواية الشاعر (يوسف سبتي الذي أهديت إليه الرواية) في كلمات لن نعلق عليها لأن أي محاولة وصف أو تأويل من شأنها أن تشوه محمولاتها التي تغطي دلالياً مراحل تاريخية عدة، وليس فقط عشرية التسعينيات التي كتبت فيها الوراية، لذلك سنترك كلمات الرواية سائرة مسار الخطاب الثائر للروائي الطاهر وطار، الذي لم يكتب إلا ليرمي بحمم حنقه على أعداء شعبه و أمته، ويرثي خيباتهما التاريخية المتعاقبة في عبارة كتبها باكياً: “لا صدر اليوم (…) يضع عليه الشعب رأسه و يبكي، كلهم تحولوا إلى تجار ورجال أعمال و مضاربين.. إنني لا أريد أن أبكي أريد أن أقيم مناحة يشترك فيها كل من بقيت فيه ذرة من العقل”(15).
رحمك الله عمي الطاهر..
د. محمد الأمين بحري- ناقد وأكاديمي من الجزائر
_______
هوامش
(1) – الطاهر وطار: الزلزال المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ENAG الجزائر(د- ط) 2005ص36. الآية من سورة الفيل: الآية : 3- 4 .
(2) – رواية الزلزال: ص 48.
(3) – رواية الزلزال: ص63.
(4) – رواية الزلزال: ص: 94.
(5) – رواية الزلزال: ص: 119
(6) – رواية الزلزال: ص 135. و الآيتان 28-29 من سورة نوح
(7) – النماذج البدئية(Archétypes)، مصطلح أنثروبولوجي لكارل يونغ.
(8) – جورج لوكاتش نظرية الرواية ص: – George LUCĂCS : La théorie du roman, 1963. p 49
(9) – الطاهر وطار: الزلزال: ص 11.
(10) – الطاهر وطار : العشق و الموت في الزمن الحراشي، موفم للنشر، الجزائر، ط4، 2004ص 99.
(11) – نفسه ص 28.
(12) – نفسه، ص 246.
(13) – الطاهر وطار : الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء، موفمENAG الجزائر(د- ط) 2005ص 21.
(14) – الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء: ص 22.
(15) – الطاهر وطار: الشمعة و الدهاليز، موفم ENAG الجزائر(د- ط) 2005 ص 160.

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *