في الشعر يتعامل الإنسان مع نفسه بينما يتعامل في السرد مع الآخر




*مريم حيدري

“الرحلة بين اللغات لم تعد حدثا بالنسبة إليّ، لأنها حدثت منذ زمن طويل وأنا أقف الآن في خضمّها”. هكذا يصف الكاتب الكردي بروج آكره- اي وجوده بين لغات أربع، الفارسية، والكردية، والسويدية، والعربية. درس العربية لثلاث سنوات فقط، ولا يقرأ بها، ويقول إنه يجد نفسه دائخا فيها، السويدية تعلمها وقرأ بها كثيرا، فقد عاش لسبعة عشر عاما في السويد، لكنه يعترف أنها لم تصبح يوما لغته في الحس والرؤية، فقد بقيت لغة أجنبية بالنسبة إليه، ويقول إنه كئيب في هذه اللغة، أما الفارسية، والكردية فهما اللغتان اللتان يكتب بهما بشكل متواصل.

يكتب بروج آكره- اي الشعر بالكردية، يترجم من الفارسية إلى الكردية، يكتب القصص بالكردية والفارسية، يصور، وقد صور كثيرا من الشخصيات الأدبية والفنية في إيران، وكردستان العراق، وهو مهتمّ بالسينما، والموسيقى بشكل جديّ، إذ يكتب السيناريو، وقد مثل في أحد الأفلام الكردية الجميلة “ذكريات على الحجر”، لمخرجه “شوكت أمين كوركي”، وحين تلتقيه، خلال الدقائق الأولى تلاحظ فيه آثار كل هذه الثقافة، والرقيّ. مزيج من شاعر كردي مرهف، وكاتب فارسي مبدع وخلاق في كتاباته، ومترجم دقيق، وذكي، وفنان من الطراز الرفيع، بذوق فائق.
بين اللغات واللهجات
يعيش ضيفنا في الكتابة والكلام بين لهجتين أساسيتين من اللغة الكردية، هما “الكرمانجية” (الخاصة بشمال كردستان العراق)، و”السورانية” (في جنوب كردستان)، فقد ولد وترعرع في عائلة تتحدث باللهجة الكرمانجية، إلا أنه يكتب باللهجة السورانية، فيقول إنه “الآخر” في اللغة الكردية أيضا. يقف خارج اللغة أو اللهجة، لتجتذبه إلى بطنها، ثم ترجعه إلى نفسه.
ولد بروج آكره- اي (Barouj Akra-yi) عام 1963 في مدينة أربيل، بكردستان العراق. رحل عام 1975 إلى إيران لاجئا رفقة عائلته. عاش في إيران 15 عاما، ثم رحل إلى روسيا ومن هناك إلى السويد عام 1990، وأقام هناك 21 عاما، ليصل به المطاف إلى كردستان العراق، مواصلا عملية اللجوء على حدّ قوله، حيث يقيم منذ خمس سنوات في مدينة أربيل.
صدر له في الشعر خمسة دواوين منها: “الموت في المرآة” (1991)، و”مرة ثانية الموت في المرآة” (1992)، و”ما وراء كلمات الليل” (1994). وقد ترجم للكثير من الكتاب والشعراء الإيرانيين إلى الكردية ومنهم: فروغ فرخ زاد، وأحمد شاملو، وجلال الدين الرومي، وبهرام بيضائي، وهوشَنك كُلشيري.
وعن كتابته الشعر باللغة الكردية، والسرد بالفارسية يقول: انتبهت بعد فترة من الكتابة لهذا الأمر. أعتبر كتابة الشعر بالفارسية أمرا عبثيا لنفسي. أظن أننا في الشعر أمام الإحساس، والإيقاع، والجوّ، ثم الكلمات والعبارات، أي تأخذنا الكلمات أحيانا إلى أماكن لا توجد أحيانا في عالم الواقع، بل هي موجودة في الخيال البحت فقط. ربما إلى العودة نحو الكلمات الأولى التي وصلت آذاننا من أفواه أمهاتنا، تلك الهدهدات والأغاني، فنحن منطلقون تماما في الشعر، بخلاف القصة التي يضع السارد فيها قدميه دائما فوق الأرض. ربما أنا لا أتجرأ أن أنطلق في الفارسية، ولم أسمح لنفسي أيضا أن يراودني هذا الهاجس.
يتابع: برأيي يتعامل الإنسان في الشعر مع نفسه، وفي السرد مع الآخر. ربما لأني عشت سنوات قليلة فقط مع الأكراد، لم أر إلا القليل من أحاسيسهم، وسلوكياتهم، لذلك لا أستطيع أن أورطهم في الحياة السردية، وأكتب عنهم… في السويد كان أغلب أصدقائي إيرانيين، وكأني كنت أكتب لهم قصتي وقصصهم، غير أني كنت أكتب الشعر لنفسي. طالما كان الشعر بالنسبة إليّ مثل تمتمة أغنية في الظلام. ربما من أجل ألا أخاف، أو لأقول للظل أو للشبح الذي لا يوجد لكني أحس بوجوده: أنا أيضا أمرّ الآن من هنا، مثلما تفعل أنت.
الإدراك الشعري
وبما أن الكاتب عاش سنوات طويلة في كل من إيران، وأوروبا، وكردستان العراق، يقول عن حضور المكان في السرد والشعر: “إنه لا مفر لنا من الزمان والمكان في السرد، بخلاف ما هو الحال في الشعر. بدأت بكتابة القصص عندما كنت أعيش في السويد، وكنت أريد أن أخلق الزمان والمكان اللذين أعيش فيهما، وأن أضع شخوصي فيهما يدورون، لأني كنت أرى نفسي أدور حول نفسي وبينهما. كنت أقول لنفسي: من يجب أن يكتب عن هؤلاء (أي عنا)؟ كنت أشاهد هناك كتابا من الفرس، والعرب، والأكراد.. كانوا كلهم يكتبون عن أماكن وأزمنة لا يعيشون فيها. أو كانوا يعيشون فيها من قبل… وكل ذلك ليقولوا في النهاية إننا غرباء، ومهجرون، ومنفيون… واللطيف أنهم جميعا كانوا يدّعون أنهم كتاب واقعيون. لكني لم أكن أحب تلك الواقعية غير الواقعية.
في سؤالنا إن كان يجب أن تكون شاعرا لتترجم الشعر، يرد آكره- اي الذي يقرّ كثير من الأدباء والنقاد ببراعته في الترجمة للشعراء الإيرانيين إلى الكردية: أظن أن الإجابة هي “نعم”… ولكن بشرط ألا يكون هذا الظن قويا جدا. نعم، يجب أن تكون شاعرا، وبالطبع ليس شاعرا يكتب الشعر أو ينشر نصوصه، بل يجب أن يمتلك المترجم ذهنا، ولغة، ورؤية شاعرية، وأن يحس بالأحداث الصغيرة جدا في اللغة الشعرية. وإن لم يمتلك المترجم هذا الإدراك الشعري، فلا أعتقد أن النتيجة ستكون جيدة. لا فضل في فهم معنى المفردات في الشعر باللغة الأصلية، ثم إيجاد معادل لها في اللغة المترجم إليها. بل الفضل والفن في ترجمة الشعر هو العثور على خطوط الشعر غير المكتوبة، وترجمتها. ويجب أن تكون شاعرا لتشعر بما لم يُكتب، وتقرأه.
المحطة الأخيرة
صدرت لبروج في السرد مجموعة قصصية بعنوان «شيء في هذه الحدود»، ومجموعة قصص مترابطة عنوانها «نحن هنا». كتب آكره- اي هذه القصص إثر تجربة عمل في دار رعاية العجزة بالسويد، من الدور التي تبعث كل يوم موظفا منها ليعتني بالعجائز في بيوتهم. فاشتغل الكاتب هناك لعشر سنوات، ليسجّل هذه التجربة في كتاب يعكس ببراعة هشاشة الحياة، وتمسّك الإنسان بها، والموت الذي يعيش مع الإنسان كأنه عضو من أعضاء بيته.
والكتاب رغم حجمه الصغير إلا أنه يمتلك نواحي عدة للتأمل، من تجربة الوضعيات في القصص بشكل شخصي وملموس، حتى شكل الكتابة، والإيجاز في النص، وقدرته على التفاعل مع القارئ، ويقول آكره- اي عن هذه التجربة إنه ذهب ليشتغل في دار رعاية العجزة من أجل كتابة هذه القصص.
يضيف ضيفنا: کان لديّ أصدقاء يشتغلون في مثل هذا العمل، وكانوا يحدثونني كل مرة عن عجائز، لم أرهم ولم أكن أستطيع أن أراهم. بعد فترة أصبح لديّ هاجس بأن أرى أولئك المنفيين وأسمعهم. فذهبت واشتغلت لعشر سنوات معهم. واستغرق الأمر سنتين لكي أستطيع أن أكتب عنهم. أن أرى أولئك الأشخاص في المحطة الأخيرة من حياتهم، وأن أرسم صورتهم في النص. وكتابة هذا الكتاب الصغير استغرقت سنة ونصفا. فقد حصلت قطيعة أثناء الكتابة لمدة ستة أشهر. لأن الموسم في كتابة القصص كان الشتاء، وقد انتهى، ولم أستطع أو لم أشأ أن أكتب عن البرد المحيط بهم وبالراوي، دون أن أكون أنا محاطا بالبرد. كتابة هذا العمل كانت تجربة غريبة، ومحيّرة بالنسبة إليّ.
يواصل بروج آكره- اي: على سبيل المثال هناك قصة واحدة فقط في هذا الكتاب، حيث يكون المرأة والرجل العجوزان مازالا يعيشان معا. لا شأن لأحدهما بالآخر، والمرأة لا تنتظر إلا أن ينتقل الرجل إلى المستشفى أو إلى دار العجزة. وقبل خمس سنوات لما عدت إلى كردستان حاملا معي كل أوراقي ومسوداتي، عثرت على مسودة هذه القصة. وشعرت بالذهول حين قرأت التاريخ ومكان كتابتها. انتبهت هناك أنني كنت قد كتبتها في بيت امرأة كنت ذهبت إلى بيتها للمرة الثانية، وكنت أحبها بجنون آنذاك. في قمة الحب، كنت كتبت عن امرأة ورجل سئما من بعضهما البعض؟ معرفة هذا الأمر كانت شيئا غريبا ولا يصدق بالنسبة إليّ. وهذه التجربة أراها أكثر قيمة من تجربة العمل أو الكتابة.
الكردي البريء
لقد التقى بروج، الكاتب والشاعر سليم بركات خلال إقامته في السويد، وعن معرفته به يقول: كنت أعرف سليم بركات عن طريق الترجمات الكردية لأعماله، وأعرف أنها لم تكن ترجمات جيدة كما يجب. وكنت قرأت وسمعت عنه كثيرا.
وحين أتى إلى السويد، أظن أنه كان في خريف عام 1992 حين التقيته لأول مرة في بيت “فرهاد شاكلي” (الشاعر الكردي المقيم في ستكهولم). كان واقفا في شرفة بيت فرهاد المطلة على الغابة والبحر. صافحني بقوة، وتحدثت معه بلهجتهم الكرمانجية. ابتهج، وحين خلع سترته كريمية اللون، رأيت زنديه. كان يرتدي قميصا بلا أكمام. وجهه كان جميلا، بل مكتملا في الجمال، وهذا ما جعلني ألا أفكر بأنه ملاكم. لم نتحدث كثيرا، لكن صورتُ أكثر. حين كان يقف أمام كاميراتي، كأنه كان يريد أن يهجم مثل أي رياضي شاب، بمبالغة في إبراز عضلاته الرياضية المفتولة. لكن نظرته بدت لي مثل كتاباته؛ بريئة، ومضطربة، وممزوجة بحزن يحاول أن يخفيه ولكن بلا جدوى.
يضيف الشاعر: بعد ذلك، حين صدر كتاب ذكريات طفولته باللغة السويدية، ذهبت إلى دار النشر لأحضر حفل توقيعه. صافحني بقوة، ورحّب بي بلغته الكردية البسيطة. حين أراد أن يوقّع لي كتابه، قال: كلانا كرديّان. أنت تكتب القصص بالفارسية، وأنا بالعربية. والآن يجب أن تقرأ كتابي بالسويدية. إذن أهديه لك بالإنكليزية. وكتب بالإنكليزية ثلاث كلمات، لكنها ملأت الصفحة كلها. لقاءاتنا كانت قصيرة، وكان الشعور بالحسرة دائما يعتريني، وأتساءل لماذا لا نمتلك لغة مشتركة للنقاش؟”.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *