{النوروز} في الشعر العربي


*د. عباس خامه يار

اهتم أدباء العرب بالأعياد الفارسية اهتماماً بالغاً، فسجلت كتب التاريخ والأدب هذه الاعياد بصورة دقيقة، مبينة سننها وعادات أقوامها من طقوس، وصوروها على انها رمز للخير والمحبة والوفاق والحوا. لذلك، رووا اجمل قصائدهم في مناسباتها، وزينوا بها دواوينهم وكتبهم. ويظهر لنا جليا من التاريخ ان عظماء المسلمين والخلفاء والسلاطين والامراء كانوا يقيمون الاحتفالات في هذه المواسم على انها اعياد مباركة.

في هذا تبيين للتفاعل الثقافي والحضاري الذي حدث بين العرب والفرس عن طريق اعيادهم، وهذا التفاعل بين الامتين العربية والفارسية يمثل تجربة من افضل التجارب الانسانية التي حصلت بين شعوب العالم من النواحي الثقافية والحضارية والاجتماعية والسياسية والدينية، وبهذا الاتصال الروحي والعقلي استطاعت الامتان ان تشيدا صرحاً عظيماً، والحضارة الانسانية نهلت منها الامم الاخرى. منحت الاعياد الفارسية ادباء العرب ثروة عظيمة في مجال الادب، ففي هذا المجال كانت تنشد المئات من القصائد الشعرية الرائعة يتغنى فيها اصحابها بجمال الطبيعة وما يواكبها من عطاء وبركة، كما تجلى ذلك في الاعداد الهائلة من المقطوعات النثرية، حتى اصبحت تشكل باباً مستقلاً من ابواب الادب، بحيث يمكن ان يكون موضوعاً خصبا لدراسة الدارسين والباحثين يطرحون فيه نظراتهم وتحليلاتهم.
يوم المحبة
والنوروز هو يوم المحبة، ولقاء الاحبة، وهو اليوم الذي تتصافى فيه القلوب، وتسود المحبة بين الناس، فيتبادلون اجمل الهدايا التي تزيد العيد بهجة وحبوراً، اهدى احمد بن يوسف الكاتب الى المأمون سفطاً من الذهب، فيه عود هندي في طوله وعرضه، وكتب معها هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العيد والسعادة فقال:
على العبد حق فهو لا بد فاعله
وان عظم المولى وجلت فضائله
الم ترنا نهدي الى الله ماله
وان كان عنه ذا غني فهو قابله
النوروز في الشعر
النوروز هو عيد الطبيعة، والطبيعة في النوروز كشفت حجابها واظهرت محاسن وجهها، وابدت طرائف شتى من زواهرها، فأبدت للعيون بشاشة، واصبحت الارض ضاحكة والطير مسرورة والنبت سكران ومخمورا، اغتنم شعراء العرب والفرس قدوم النوروز، لكن ينظموا قصائد في مدح خليفة او تهنئة امير وذلك لاجل تمكين الصلة وتوطيد اواصر الصداقة، هنأ ابو تمام أبا دلف القاسم بن عيسى بسلامة من الافشين ومن علة لحقته فأنشد:‍
قد شرد الصبح هذا الليل عن افقه
وسوغ الدهر ما قد كان من شرقه
سيقت الى الخلق في النيروز عافية
بها شفاهم جديد الدهر من خلقه
ووصف ابو نواس جمال الربيع، وتحت باقات من الزهور فقال:
يباكرنا النوروز في غَلَسِ الدُّجى
بنورٍ على الاغصانِ كالانجم الزُّهرِ
يلوحُ كأعلامِ المطارفِ وشْيُهُ
من الصُّفر فوق البيضِ والخُضرِ والحُمرِ
اذا قابَلَتهُ الريحُ أوما برأسهِ
الى الشَّرب أنْ سُرُّوا ومالَ الى السُّكرِ
وصف ابو نواس جمال الربيع ومجالسه وارتبط في هذه القصيدة ارتباطاً شديدا بين مظاهر البهجة والسرور الذي يتمثل في تنامي روح الالفة والمحبة مع اجواء الطبيعة والغناء لحظة ارتسام الاضواء (البيض، الحمر، الخضر) فوق تلك الربى التي تتشرب خيوط الشمس في ساعة الغروب لتضيء بنورها الاغصان كأنجم الزاهرة في كبد السماء في الظلماء، ووصف كيف ان الخمايل سكرت وتمايلت اغصانها مع انفاس الربيع كالسكارى تحيي السكارى الشاربين في ظلها.
عيد الطبيعة
ان النوروز هو عيد الطبيعة، لان النوروز هو اليوم الجديد.
فالنوروز هو عيد الطبيعة في خدمة الانسان، ان اهتمام الملوك والخلفاء والامراء بالنوروز عبر التاريخ كان من اجل عامله الاقتصادي الذي ساهم في زيادة الاموال والواردات التي كانت تغدق على خزانة الدولة.
وقد اتخذ الشعراء في العهد العباسي من هذه المناسبة فرصة سانحة لاظهار الولاء للممدوحين (خلفاء، امراء، ولاة، وزراء) وعمدوا الى المقارنة بين الممدوحين ومظاهر الطبيعة عبر استذكارهم بعطاء الطبيعة في اشارة الى دفع الممدوح ليمثل بالطبيعة فيجزل العطاء للشاعر.
واليوم بإمكان شعوبنا ان تستعيد هذه الذكريات ليكون النوروز عيد المحبة والتواصل والتسامح الانساني وليمثل فرصة للتلاقي والتعايش السلمي ونبذ العنف والتطرف.
_________
(*) المستشار الثقافي الايراني في الكويت/ القبس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *