الشعر في خدمة الفلسفة


*علاء الدين محمود


يلج الكاتب الفرنسي كريستيان دوميه عبر كتابه «جنوح الفلاسفة الشعري» إلى التقاطعات بين العوالم الشعرية والفكرية للفلاسفة، وبالأحرى إلى اللحظة الشعرية، وهذه العلاقة غير المصرح بها في أحايين كثيرة نجدها حاضرة عند لحظة التأمل في قول الفلاسفة في عالم «المقولات» و«المفاهيم» التي لا تخلو من الصور الشعرية، ولربما يأتي عمل المؤلف ضمن أعمال سعت إلى هدم الحوائط المفتعلة بين الفلسفة والشعر، أو ربما أراد المؤلف إعادة الاعتبار للعلاقة التي أخذت طابع العداء الذي أسس له أفلاطون في كتاب «الجمهورية» عندما تحدث عن ضرورة طرد الشعراء من تلك الجمهورية.
الكتاب «جنوح الفلاسفة الشعري» صدر في طبعته الأولى عام 2013م عن المنظمة العربية للترجمة ،وهو من تأليف كريستيان دوميه، وترجمة الدكتورة ريتا خاطر.
وينطلق المؤلف من ملاحظة أن القرّاء يحاولون إيهام أنفسهم بأنهم يحبّذون الفلسفة والشعر في حالتيهما المجرّدتين. فمن الأولى، يحفظون صيغاً لا يفهمونها إلا جزئياً، وتظلم رؤيتهم وتقلقل مفاهيمهم. ومن الثاني، ينشدون إرشادات تلقّنهم كيفية العيش وأفكاراً نيّرةً وعبراً تتخذ شكل الانفعالات، علماً أن الأمر ليس كذلك. يتموضع هذا الكتاب عند تلك التخوم ويطالعنا فيه فلاسفة (كأفلاطون وديكارت وليوباردي وكانط ونيتشه…) لحظة يحاولون قراءة الشعر، ساعين إلى التعرف إلى ما يوجد في الصوت الداخلي الشاعري الغريب وفهمه والاسترسال في الحلم معه، ومحاولين التعبير عنه في نبرتهم الخاصة نوعاً ما، سواء خفيةً أو على العكس من خلال إبقائه مسرحياً على بعد مسافة منهم. ويضطلع هؤلاء إجمالاً بدور التأليف، وكأن هذه التوليفة أشبه بمعزوفةٍ متعثرةٍ إنما ضرورية، ويبحثون من دون كللٍ أو مللٍ عن السبب الذي يدفعهم إلى القيام بهذا العمل، فيجدونه حيناً ويفقدونه أحياناً.
ويرجع الكاتب إشكالية العلاقة بين الفلسفة والشعر إلى مشهد صورة أفلاطون في كتابه «الجمهورية»، حين طالب بطرد الشعراء خارج المدينة الفاضلة، لأنهم ينحرفون بالفكر عن درب الحقيقة، من خلال إخضاعه لإغراء الصور المضللة ووسم الشعر بالعاطفة، وذهب إلى اعتبار الفلسفة تقوم على«حب الحكمة»، فجعل الشعر بذلك نقيضا للفلسفة وعدوها اللدود بعد أن شن حملة هوجاء على الشعر وهذا يعتبر أول تناقض ينشأ بين الشعر والفلسفة، وبذلت محاولات كثيرة لإعادة العلاقة بين الفلسفة والشعر من جديد.
والمنجز على الرغم من تناوله لقدم العلاقة بين الشعر والفلسفة، غير أنه ينفي عن نفسه محاولة الكشف عن الشاعر داخل الفيلسوف، بقدر ما يرمي إلى تعاطي الفلاسفة مع الشعر وهذا ما قاد الكاتب إلى توضيح أن الكتاب لا يعالج العلاقة بين الشعر والفلسفة، كما أنه لا يعالج المضمون الفلسفي الذي تنطوي عليه بعض القصائد الشعرية، بل إنه يبحث في العلاقة التي أنشأها بعض الفلاسفة مع مطالعة القصائد الشعرية وأحياناً الكتابة الشعرية، ويبدو أن الكاتب أراد من هذه الإشارة الإبقاء على كل من الفلسفة والشعر في فلكيهما، لكن هذه العملية ظلت عصية فهو يخوض في معظم أقسام الكتاب المتناثرة في كيفية توظيف بعض كبار الفلاسفة لا إطلاعهم فقط الشعر فيما أسماه خدمة مقاصدهم الفلسفية، وهذا ما يقود المؤلف إلى الإقرار بأن الجفوة بين الشعر والفلسفة مصطنعة فهما يتضافران معا للكشف عن عمق الأشياء وللنبش الممكن والمستحيل وعن الضروري في العارض، وعن العارض في الضروري ليكملا بعضهما بعضا، هذه النقطة التي أشار إليها الكاتب مهمة جدا وربما تسهم في إعادة الاعتبار ليس للعلاقة وحدها، بل وكذلك للشعر كشعر، كونه ظل مجرداً من إمكانية التأمل ومهمة الأفكار، وللفلسفة التي يريد البعض أن يشيعها إلى مثواها الأخير ضمن ما يسمى بأدب النهايات لمصلحة العلم الحديث، لذلك فإن الكاتب يركز على حقيقة أن الشعر يتمم عمل الفلسفة، وبالمقابل تواصل الفلسفة عمل الشعر، ولتأكيد مكانتهما يرى الكاتب أن عالما بلا فلسفة هو عالم أهوج تتقاذفه الرياح، وعالما بلا شعر هو عالم قاحل فقد روحه، وما أشار إليه الكاتب هنا بكلمات شعرية يجد مشروعية في عالم يتجه إلى تسليع المشاعر والأفكار، بالتالي تصبح كل تلك القيم الإنسانية مجرد أشياء، فهذه الإشارة هي تمرد ضد التشيؤ وضد التسليع.
وكان للكثير من الفلاسفة علاقة مباشرة بالشعر ونضرب هنا مثلا أسقطه الكاتب رغم الإشارات الخفية وهو الفيلسوف الكبير كارل ماركس الذي طرق باب الشعر باكرا، وكانت له تجارب مع نظم الشعر لم تلق حظا من الرواج، لكن ماركس الذي عدل عن فكرة نظم الشعر رافقته فيما يبدو الشاعرية في أعماله ومقولاته الفلسفية وكثيرون كانوا يرون في البيان الشيوعي وأعمال ماركس الباكرة قصيدة تحفل بالأحلام المستحيلة في تغيير العالم، وعندما أراد الفيلسوف الكبير جاك دريدا إعادة الاعتبار لماركس ضد أفكار أعلنت عن موته وروجت ل«نهاية التاريخ» حشد دريدا في «بيان الأطياف» صورا شعرية مستدعيا وليم شكسبير وشبح هاملت عاقداً مقارنة بين الطيفين، طيف هاملت وطيف ماركس المستوحى من مقولته هناك شبح يجول في أوروبا – هو شبح الشيوعية. وقد اتحدت قوى أوروبا العجوز في حلف مقدس لملاحقته والتضييق عليه؛ من البابا والقيصر إلى مترنيخ وغيزو، ومن الراديكاليين في فرنسا إلى رجال الشرطة في ألمانيا.«وفي جملة شاعرية يقول دريدا بأنه مسكون بأشباح ذلك الفيلسوف.
والكاتب استدعى دريدا في تعريف للشعر في فصل كامل ويرى دريدا أنه لكي نجيب عن سؤال ما هو الشعر.؟ فينبغي أن يكون جديراً بالمرء أن يعرف كيف يزهد بمعرفته، مع الاعتراف طبعاً بالقدرة على الإلمام بهذه المعرفة وعدم غيابها عن باله أبداً، أما ما يقصده دريدا في التخلي عن المعرفة فهي فقط المعرفة التي تكون خارجة عن موضوع القصيدة الموضوعة أمامه للدراسة. وبعد التخلي عن تلك المعرفة يجب أن يُرخى العنان للذات في اتجاه الشعر، ويعني ذلك أن نجيب بلغة الشاعر حتى ولو اضطررنا للاعتراف بطوباوية هذه الإجابة، لأننا في النهاية قمنا بتبديل في المواقع، حيث ينبغي أن يصبح الفيلسوف شاعراً متخلياً عن معرفته الفلسفية رغم إلمامه بالشعر.
وكذلك يستدعي الكاتب الفيلسوف نيتشة الباحث عن «الإنسان الكامل» والذي يقول: «إنه من الضروري ألا نوغل في الفكر وننسى الوجدان الذي يمثله جانب الأدب والشعر فلابد من العودة إلى ما يعتمل في أنفسنا من عناصر بدائية للارتشاف من نبع العاطفة حتى لو دعا ذلك إلى تحطيم الفكر التحليلي»، ولعل نيتشة يقيم هنا تناقضاً بين الوجدان والفكر، الوجدان للشاعر والفكر للفيلسوف، وهذه نقطة تحتاج إلى إضاءات كثيفة فمن الصعب إقامة هذا التناقض بشكل حاسم فهنالك بعض الشعراء تعبر قصائدهم عن مواقف فلسفية، ومن التراث العربي يمكن أن نضرب مثلا بأبي العلاء المعري، ومن الغرب هنالك الشاعر والمسرحي وليم شكسبير وكثيرون، بل إن كل نص يحمل فكرة وتأسيساً جديداً وموقفاً من الوجود، وهذا ما نجده في تأملات الفيلسوف هيدغر حول الشعر فهو يعتبر الشعر تأسيساً للوجود بواسطة اللغة، لقد جعل هيدغر من الشعر أسمى تعبير عن ماهية الوجود.. فالشعر والوجود يشكلان علامة رؤيوية يقول هيدغر في محاضرته «هيلدرلن وماهية الشعر»: «إذا كان (الشعر) في جوهره تأسيساً، فهذا معناه وضع أساس ثابت وراسخ، الشعر تأسيس للوجود بواسطة الكلمة والوجود لا يكون أبداً هو الموجود ولكن ونظراً لكون الوجود وماهية الأشياء لا يمكن أبداً أن ينتجا عن حساب ولا أن يشتقا من الموجود المعطى سلفاً، فإنه من الواجب أن يخلقا ويوضعا ويعطيا بحرية. وهذا العطاء الحر هو التأسيس، إن ماهية الشعر تجعل منه تأسيساً للوجود، وماهية الإنسان هي في أن يحيا شعرياً على هذه الأرض، قدم هيدغر في محاضرته (رسالة في النزعة الإنسانية) عام 1947 فكرة عن العلاقة بين الشعر والفكر والوجود، وبين أن التفكير سرعان ما ينهار عندما تتخذ لغته طابعاً علمياً وتتشكل في قوالب منطقية أو فيزيائية، فالتفكير الأصلي هو الذي يُعبر عن الوجود بواسطة اللغة، اللغة بيت الوجود كما يقول هيدغر، والإنسان يقطن هذا البيت، ويكون الشاعر والمفكر حراس وحماة هذا البيت.
وينشد المؤلف كذلك إعادة الرابط بين الفلسفة والشعر، هذا الرابط الذي يعيد الحاضر شده، بينما لم يكف التاريخ عن فصمه، لذلك يقول الكاتب إن الخصام بين الفلسفة والشعر هو مجرد خدعة. 
وفي معالجته للعلاقة يشير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز على الشبه بين النشاط الذي يقوم به الكاتب وضمناً الشاعر وبين ما يقوم به الفيلسوف فكلاهما يضع نفسه في موضع الترحّل، أي في اعتماد أسلوب الذهاب والإياب إلى التصوّر العقلي، من خلال المرور بالصور والأشخاص، ومختلف أشكال اللحن، والإيقاعات، والمشاهد.
وتتجلّى فرضيّة الكتاب في أن الفلاسفة يميلون بمقتضى ظروف وأساليب خاصة إلى ملاقاة القصيدة الشعرية، سواء اتخذت شكل الحلم، أو الخيال المبدع، أو الحنين، محاولين توطين مضمونها في أرض الإدراك العقلي.
ويتضمن الكتاب ما يناهز العشرة أبحاث يتم تنظيمها في كل مرة حول شخصية أو شخصيتين تؤديان دور نقاط الاستدلال. وتطالعنا فيه قصائد شعرية. ونصادف فيه فلاسفة مثابرين على قراءة القصائد الشعرية. 
ويلفت المؤلف في ختام توطئته للكتاب إلى أن بعض الفلاسفة الذين لم يتطرق لهم لعدم تمحصه في قراءتهم مثل سارتر وفوكو وهيجل، فالغاية التي يصبو الكتاب إلى تحقيقها كانت تكمن في استكشاف بعض الحالات التي بدت فريدة ومعبرة في آن معا.
الكتاب يحشد عددا من الفلاسفة الكبار الذين لهم علاقة حقيقية بالمطالعة الشعرية ويسرد تجاربهم الثرية مع تلك المطالعة وتأثير الشعر والشعراء في فلسفتهم ومواقفهم وكذلك أقوالهم، وكذلك علاقاتهم ببعض الشعراء، جمعها في فصول متناثرة ونقول متناثرة لكونها لم تلق بالا للتسلسل، فكل فصل هو قائم بذاته ويحمل فكرة مختلفة، ويسجل الكتاب اختراقاً نادراً في تناول العلاقة بين الشاعر والفيلسوف، وبين الفيلسوف والشعر.
___
الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *