قراءة في كتاب ” الرومي : دين الحب ” لليلى أنفار ( 2 )




عائشة موماد *



كنت نيئا، ثم نضجت، ثم احترقت…..

لا يمكن تجريد تصوف مولانا جلال الدين الرومي من إطاره العام، أي الإسلام المحمدي، رغم ابتعاده عن صلابة الشريعة وعن التصوف المؤسساتي كما تفعل بعض التيارات الغربية.
“في هذا المنحى، فقد كان دائما وفيا للتقليد، حرا في فكره، متميزا في رؤيته وتناوله للأشياء” ل.أ.
“وإن كان الرومي أمير العشاق، فلأنه عرف أن يَعشق ويُعشق، أن ينشأ ويتلاشى في العشق” ل.أ
من هنا كان لزاما التعريف بمعلميه والمساهمين في رقيه الروحي: الأب “سلطان ولد”، شيخه ومريد والده “برهان الدين محقق” ثم معشوقه “شمس الدين التبريزي”. وكما يقول “إريك جوفروا في كتابه”Initiation“:”الشريعة، الطريقة، ثم الحقيقة“.
نتطرق في هذا الجزء إلى تعاليم الوالد بهاء الدين ولد، ومن بعده مريده برهان الدين محقق الترمذي، ثم نخصص جزءا ثالثا من هذه القراءة إلى الشمس الساطعة: شمس الدين التبريزي.
في كتاب”المعارف“لوالد مولانا وفي مصادر أخرى مختلفة، يظهر أن هذا الأخير كان ذا بنية دينية وروحية لا مثيل لهما، وكان صاحب كرامات كثيرة ومريدين كثر. وتقول الباحثة أن”قراءة كتاب “المعارف” يظهر أن بهاء الدين ولد كان شيخا عارفا بالله، منغمسا في جو روحاني غني“ل.أ
لكن حسب ف.ليويس في كتابه”الرومي ماضيا وحاضرا، شرقا وغربا“فالباحث ينكر ذلك ويأتي بدلائل وحجج، ويذهب إلى حد إنكار تأثير بهاء الدين ولد على ابنه، فقد حجب شمس الدين التبريزي كل ذلك وكان شيخه الحقيقي وقطبه الروحي.”في أعمال الرومي نفسه، لا نلاحظ انه ذكر والده أو أشار إلى أعماله أو تأثيره عليه بشكل مباشر“ل.أ
ويعتقد أن سلطان ولد قد وضع أفكارا ومعلومات غير محققة عن أبيه وجده، و”يعزى ذلك إلى حب الانتماء إلى سلالة من علماء الشريعة. كما انه رغم معارضته لبعض سلوكيات أبيه، فقد أراد أن يضفي نوعا من المشروعية الدينية عندما يضع والده داخل إطار عائلي “صحيح دينيا” ل.أ .
وتوالت بعد ذلك السير التي أتت بجملة من الإدعاءات، وتفاقم الجانب الخرافي فيها، حيث اختلط بالوقائع.
لم يحظ بهاء الدين ولد بمثل شهرة ابنه، لكن ذلك لا يمنع من كونه معلما روحيا كبيرا، ساهم في التكوين الروحي لجلال الدين الرومي. “فمن المحاور الأساسية لفكر الرومي، أن الحقيقة الروحية لا تقاس بمعيار الشهرة” ل.أ
لقد كانت حياته الروحية متوجهة نحو عشق الخالق في جميع الحالات وكل الأشياء، لكن ذلك بعيد كل البعد عن وحدة الوجود “Panthéisme” الذي يعتقد بها الفلاسفة الغربيون. ألم يقل سبحانه أنه أقرب إلينا من حبل الوريد؟ كفى بذلك دليلا.
بعد وفاة سلطان العلماء بهاء الدين ولد بسنة، التحق برهان الدين محقق الترمذي بقونية من أجل إتمام ما بدأه الأب بشأن مولانا جلال الدين الرومي، وقد اختلفت الروايات حول سبب مجيئه. هناك من يقول أنه جاء باحثا عن شيخه لكن المنية سبقته، وهناك من قال إن شيخه أمره أثناء الحلم بالذهاب إلى قونية والتكفل بالتكوين الروحي لمولانا. دام ذلك تسع سنوات زار فيها مولانا حلب ودمشق، ودرس علوم التفسير و علم الحديث والفلسفة والحكمة الإشراقية “Théosophie”.
كانت هذه المرحلة مناسبة للإحاطة بالعلوم الظاهرية “الشريعة” حتى يتمكن بعد ذلك من ولوج “الطريقة”.
يقول برهان الدين محقق في كتاب “ولد نامة” لسلطان ولد مخاطبا مولانا الذي يعتبره كابن له: “مهما كنت بارعا في العلوم وليس لك مثيل: اعلم أن أباك كان يمتلك الأحوال الروحية. ابحث عن ذلك وتتجاوز”علم القال“. الآن وقد أصبحت متمكنا من هذا العلم مثلي، ادخل إلى سكر أحواله وجاهد على أن تحصل على إرث أبيك كاملا لكي تكون كالشمس ناشرا للنور، أنت وريث أبيك بالنسبة للقشرة، أنظر، فأنا قد حظيت باللب”.
نصح برهان الدين محقق تلميذه بقراءة أعمال والده بغرض استبطان المعاني الروحية من خلال الطقوس الظاهرية، وقد كان الشيخ متعلقا بالصيام والصلاة، وكان يحث على الخلوة من أجل التمرن على الزهد والتأمل، وقد قال في هذا الشأن:
“نستطيع الهروب من كل شيء، ذلك يسير، لكن لا نستطيع الهروب من أنفسنا. فالنفس هي سبب آلامك. لن تعرف الراحة قبل أن تصير”لا شيء“وتفني النفس وشهواتها. مت قبل الموت وادفن”نفسك“في قبر”اللاشهوة“، عندها ستصل إلى السعادة….(موتوا قبل أن تموتوا) من الأحاديث النبوية التي تأمل فيها الصوفية كثيرا وحاولوا تحقيقها على أرض الواقع عبر مجموعة من المجاهدات. وقد ذكر الرومي مرات عديدة”الموت قبل الموت“، أي التخلي بطريقة قطعية عن النفس وعن كل ما يربطها بالدنيا والابتعاد عن”النفس الشهوانية“للوصول إلى كيفية أخرى للبقاء”mode d’être“تكون هي السعادة الحقيقية” ل.أ
وقد قال مولانا في غزل شهير من الديوان الكبير:
موتوا، موتوا في هذا العشق، موتوا
عندما تموتون في هذا العشق، تحظون بالروح كاملا
موتوا، موتوا، لا تخافوا من هذا الموت
لأنكم ستصلون إلى السماء وأنتم تغادرون هذه الأرض
موتوا، موتوا، انفصلوا عن هذه النفس
فهذه النفس قيد وأنتم لها سجناء
تناولوا الفأس وهاجموا هذا السجن الفارغ
سوف تصبحون ملوكا وأسيادا بعد تدميره
موتوا، موتوا بالقرب من الملك الحسن الوجه
سوف تصبحون ملوكا وأمراء، إذا متم بالقرب منه.
لهذا نلاحظ أنه كان لبرهان الدين محقق تأثير كبير على مولانا نشهده في الحكايات والقصص التي يرويها في آثاره التعليمية. “فالشيخ كان يلجأ إلى القياسات والصور المجازية من أجل شرح مسائل روحية بطريقة ملموسة وجذابة…….وكان هو من شجع الرومي الشاب على قراءة الأشعار ذات الطابع الروحي كمصدر للحكمة والتعلم، حيث أن الأشعار في تلك الحقبة الزمنية، لم تكن تدخل في إطار التكوين الروحي”.ل.أ
كان برهان الدين محقق متذوقا للشعر، صانعا منه مصدرا لإلهامه وطريقة للتعبير عن أحواله الروحية التي يعجز عنها الوصف، وقد ظهر ذلك جليا وبصورة أكثر وضوحا في مختلف أعمال جلال الدين الرومي الذي تهيأ لمدة تسع سنوات للقاء. “هل كان يعلم أن هذا الاستعداد الروحي للقاء الله كان استعدادا للقاء محرق، سيضرم النيران في إلهامه الشعري؟ هل أحس بذلك؟ ليست هناك أية مصادر تستطيع الجزم بذلك” ل.أ.
ل.أ: مترجم عن ليلي أنفار
ليلي أنفار”Leili Anvar“دكتورة في الآداب، محاضرة وباحثة في الأدب الفارسي بمعهد اللغات والحضارات الشرقية INALCO
* عائشة موماد  : باحثة وأكاديمية مهتمة بالتصوف من المغرب

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *