أ. د. عماد أبو غازي
في خريف عام 1905 تبلورت لدى مجموعة من شباب مصر من طلبة المدارس العليا وخريجيها فكرة إنشاء نادٍ للمدارس العليا يجمع في عضويته بين الطلاب والخريجين، وجاءت هذه المبادرة في سياق نمو متصاعد للوعي الوطني شهدته مصر منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وقد أخذ هذا النمو عدة مسارات متوازية، منها تنظيم هذا الوعي في أطر مؤسسية تدفع بحركة المجتمع إلى الأمام، ومن بين هذه الأطر المؤسسية كان نادي المدارس العليا.
وكانت المدارس العليا في ذلك الوقت معاهد للتعليم العالي، وتعتبر أعلى مؤسسات التعليم المدني درجة في مصر، فلم تكن الجامعة قد أُنشئت بعد، ومن أهم تلك المدارس التي كانت قائمة والتي يرجع تأسيس بعضها إلى عصر محمد علي: مدرسة الطب والمهندسخانة (الهندسة) والحقوق والمعلمين والألسن، والتي تخرج منها على مدار سنوات أجيال من مثقفي مصر الذين حملوا على عاتقهم تمهيد الأرض وتهيئة المناخ لأهم الثورات في تاريخ مصر الحديث، ثورة 1919.
في أكتوبر من عام 1905 تألفت لجنة تأسيسية للنادي برئاسة الدكتور عبد العزيز نظمي بك، وأعلنت اللجنة عن فتح باب الاكتتاب لتأسيس النادي، وتبنت جريدة اللواء، جريدة مصطفى كامل الدعوة، وكتب مصطفى كامل معضدًا لها في 19 أكتوبر فقال: “نرى من أوجب الواجبات إعانة هذا النادي ممن يقدرون العلم وذويه”، ونظمت اللجنة التأسيسية عرضًا تمثيليًا بدار التمثيل العربي ذهبت حصيلته لتمويل المشروع، وقد بلغت حصيلة الاكتتاب حتى آخر نوفمبر 1905 281 جنيها.
وفي 8يوم الجمعة ديسمبر 1905 اجتمعت أول جمعية عمومية للنادي في صورة جمعية تأسيسية، وقد عقد الاجتماع بإحدى قاعات مدرسة الطب، وبلغ عدد الحاضرين من طلبة المدارس العليا مائتي طالب، بالإضافة إلى عدد من الخريجين، وانتخبت الجمعية العمومية مجلس الإدارة الأول برئاسة عمر بك لطفي، وضم المجلس في عضويته ممثلين للطلاب والخريجين، وبلغ عدد أعضائه 14 عضوًا، وكان من بينهم عبد الخالق ثروت رئيس وزراء مصر فيما بعد ممثلًا لخريجي مدرسة الحقوق وأمين سامي صاحب كتاب تقويم النيل من خريجي المهندسخانة وحافظ عفيفي الطالب بمدرسة الطب والذي أصبح فيما بعد أحد أعضاء الوفد المصري ثم خرج عليه وصار رئيسًا للديوان الملكي في أواخر عصر فاروق.
وبعد اكتمال الاكتتاب تم افتتاح مقر النادي يوم الخميس 5 أبريل سنة 1906، وكان المقر يقع في المنزل رقم 4 بشارع قصر النيل و”كان بناءً فخمًا تحيط به حديقة غناء” وفقًا لوصف المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي وهو مصدرنا حول هذه الوقائع، فقد كان شاهد عيان وعضوًا مؤسسًا للنادي باعتباره طالبًا في مدرسة الحقوق، وكان بالمبنى عدة غرف واسعة تستخدم بعضها للمحاضرات والبعض الآخر كصالونات للجلوس، كما كان النادي يضم قاعة للمكتبة وأخرى للبلياردو وقاعات للألعاب المباحة التي لم يحددها الرافعي، وإن كان قد ذكر أن مبادئ النادي كانت تمنع تقديم الخمور ولعب القمار.
وقد حضر حفل الافتتاح عدد من رجال الحكومة منهم: حسين فخري باشا ناظر المعارف، الذي ألقى كلمة في حفل الافتتاح، ويعقوب أرتين باشا وكيل المعارف، ومحمود صدقي باشا محافظ العاصمة ونظار المدارس العليا ووكلائها، والغريب أن بعض المستشارين الإنجليز للنظارات المصرية قد حضروا الاحتفال منهم مستشار المعارف دنلوب والذي كان نموذجا للغطرسة الاستعمارية وكانت بينه وبين القيادات المصرية الوطنية لنظارة المعارف صدامات عديدة، كما حضر الحفل كذلك متشل أنيس وكيل وزارة المالية والذي أصبح بعدها بعام واحد أول رئيس للنادي الأهلي، كان حفل افتتاح المقر تدشينًا لنشاط ثقافي وفني وعلمي وسياسي استمر على مدى ثماني سنوات، وخلال هذا النشاط الذي شمل تنظيم المحاضرات والرحلات والمسابقات والأنشطة الاجتماعية، من خلاله تأسست جمعية لرعاية الأطفال، وفيه امتزج طلاب المدارس العليا بخريجيها وتفاعلوا لخدمة مصر، ومن هذا النادي خرجت مجموعة من المشروعات المهمة ففي قاعاته اجتمعت لبعض الوقت لجنة إنشاء الجامعة المصرية، وفيه تأسست مدارس الشعب لتعليم العامة، وقام أعضاء النادي بالتدريس فيها، وربما كان هذا المشروع الذي أطلقه الزعيم محمد فريد أول مشروع لمحو الأمية في مصر، وفي النادي أيضًا أنشأ عمر بك لطفي رائد الحركة التعاونية المصرية مشروع النقابات الزراعية.
عندما تأسس النادي كان عدد أعضائه 240 عضوًا بلغوا في نهاية عام 1906 471 عضوًا، ومع نهاية العقد الأول من القرن العشرين كان عددهم قد ناهز الثمانمائة عضو.
وقد استمر النادي الذي يعد أول تنظيم طلابي مصري يمارس نشاطه حتى قامت الحرب العظمى سنة 1914، وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر، فأصدرت السلطة العسكرية البريطانية قرارها بإغلاق النادي قبل أن تنتهي سنة 1914، فقد تواكب مع إنشاء النادي نموًا للحركة الطلابية المصرية سواء الحركة الخاصة بالمطالبة بإصلاح التعليم ولوائحه أو النشاط السياسي للطلاب المدافع عن مصالح الوطن والمناهض للاحتلال والمطالب بالجلاء والدستور والحريات العامة، ولهذا حديث آخر.