*محمد قاسم الخزامي
خاص- ( ثقافات )
ليسَ على الكاتب أن يسأل إلى أيّ مدى هو متحرر، بل إلى أيّ مدى يستطيع الكتابة دونَ حاجة إلى الحريّة، فعندما نكتب، لا يجب أن نفكر إن كنّا أحرارًا أم لا، لأننا نكتب مقيدين بالقلم، لذا، لا بدّ أن توجد حرية أدبية في الأدب لكن من دون تشيئتها، لأن الخطر في ذلك هو أن الأدب يحظى بحريّة مطلقة.
قد نقصد بحرية مطلقة، أن الأدب لا يلتزم بحرية واحدة، لأنه يجمع عدّة حٌريّاتْ، لا حرية التعبير وحدها بل حرية المعارضة، وحرية المثقف، وحرية التصور أيضا.. بل وحتى حرية المرأة.. إلخ.. لهذا، فإنّ تهميشَ حريّة واحدة من حريات الأدب هذه هو إلغاء للأدب وحريته بالكامل، لكن ما نفعله أننا نستخدم هذه الحرية بتجاوز، إتخاذا بأنَّ الكاتب حر من الأدب الذي يكتبه، أو أن الكاتب أكثر حريّة من أدبه!.
من هنا، يصبح الأدب في وضع محير، ومُستغَل لحريته الذاتيّة، ويُصبح مضطهدًا. وهذا قد يعني أن الكاتب مضطهد أيضًا، لأنّ الكاتب الذي يتجاوز حد حرفه بإقامة حد الكتابة على الأدب، هو قطعا مضطهد، وهو يسترجع حريته التي نقصت، بإنقاص حريّة الأدب. هل لأننا عندما نكتب يعني أن نتخلى عن حريتنا على حساب حريّة الأدب؟
لعل الحلّ يكمن في التوازن بين كلا الحريتين: حرية الكاتب والأدب. لأنَّ الكاتب قد لا يفكر في استغلال حريته أحيانا، ولأنَّ الأدب لا يزال في طور التحرر بعد.
وكلّما تحررت حريّة الأدب أكثر، كلما حرر معه مجتمعه الذي ينتمي إليه، فهو في مجتمعات ما قد حرر المرأة، وحرر العقول الجاهليّة في مجتمعات أخرى: أصبحنا نكتب عن أشياء جديدة جميلة. لكن كلما يتزايد الضغط على الحريّة الأدبيّة، كلما تفاقمت مشاكلنا، وعدنا بعصورنا إلى الوراء.
وصل الأدب إلى كلّ هذه النقاط، لأنه لم يبدأ بتحرير نفسه بل الآخرين، ووصل الكاتب إلى ذلك لأنه بدأ بتحرير حرية الأدب، وعلى هذا النسق يجب أن تتحرر الأشياء.
أحيانا قد تحتاج الحرية إلى شعب كما الأدب لتكون، لكن لو تخلت الحرية عن الأدب لأصبحنا نقوم بثوراتٍ وشعارات لها كلام فارغ، أي مجرد شعارات شفاهية لا أساس لها من الكلمة.
اليوم طلبا للحرية، جربنا أن نتخلى عن الأدب، فصرنا نقوم بثورات لا ندري ماذا يمكن أن نقول فيها، نحن الذين كنا نتحرر بما يكتبه لنا الكتاب والشعراء، لأن الحرية هي أن نبدأ بالاتفاق عمّا نريد قوله، ولذا فإنَّ أغبى الشعوب تلك التي لا تعرف كيف تتحرر بالأدب. ومن الأسلم إذًا أن نقبل أن الأدب حينها لم يسعفنا،
إذ أن الأدب برغم حريته ما عاد يعرف كيف يحررنا من أخطائنا التاريخيّة. وهل كنا نتوقع أنه سيحمي بحريته اليوم القضايا والثورات الجديدة، في غياب الكتب من أدراجنا ورفوفنا؟
لأنَّ الحرية كما الأدب، تحتاج إلى زمن كي لا تستنزف لأنَّ ما نستنزفه من وقت في إصلاح الحاضر هو ما يؤخر وصول المستقبل، لأننا لا نريد من المستقبل سوى أن يكون جاهزا، وهو لا يأتي إلا جاهزا.
اليوم، وأمام ضيق سعة الحرية في أدبنا، أصبحنا شبه عاجزين عن الكتابة، فثمة أنظمة لا تعطي الحرية المطلقة للكتاب وتجبرهم على ترك أقلامهم بينما تسمح لكتاب آخرين الحق في المواجهة. فهي تعلم أن النباح من الخارج لن يسمعه كل الشعب، بينما النباح من الداخل هو الذي يصنع الثورات، ويجعلها في خطر يرغمها على إسكاتهم. وهنا تكمن مأساة الأدب والحريّة اليومية.
فهل على الكاتب حينها أن يستنجد بحريته أم بحريّة الأدب؟
فهو إذا ناضل بحريته مات هو، وإذا ناضل بحرية الأدب… مات الأدب.
لهذا وحده، يُفشل الكاتب نفسه أحيانا كي لا يموت أدب الآخرين فتصبح حريّة الأدب حرية شاهقة لا يمكن إستعمالها إلا في حالات نادرة، وهو كي يحميها، يسرع مجددا بالكتابة برغم أن هناك من يحاول إقصاء الكاتب بدعوى أنه أقدر منه على حماية الأدب إذ حدث أيضا لكتب ذات قيمة أن منعت في عصر وأعيد استئناف بيعها في زمن آخر، هذه الكتب التي لم تتمتع بحريتها حتى بعد موت أصحابها وقد تمنع مستقبلا مع أنظمة أخرى أكثر إستبدادا وأكثر مقصية للأدب.
إن الأخطاء التي قمنا بها في الأدب هي التي نبهتنا إلى حريته، والأخطاء التي قمنا بها في الحريّة هي التي جعلتنا نخلق الأدب.
وجدت الحرية في الأدب لنتصرف بها لا لنتصرف فيها، وفي هذا الفرق وحده توجد الكتابة الحقيقيّة والأخرى المزيفة.
__________
* حصل هذا المقال على جائزة جمعية أقلام أدبيّة سنة 2014 في مسابقة أدبيّة كان الكاتب هو الثاني فيها، وقد اشترط أن يكون الموضوع الأدب والحرية.