*سمر الزعبي
خاص- ( ثقافات )
يعرف أن عشيق زوجته في البيت الآن، لكنه لا يجرؤ على المواجهة، ولو ساورته الشجاعة؛ يتخيّلها تتخصّر وشفتاها تتحركان كأن صعقة كهربائيّة أصابتهما، تعيّره بما يشين الرجال.. يا للفضيحة، فلتفعل ما يحلو لها.
مَن قال له يومها أن يتشاجر معهم على رغيف؟ هو الطمع! فقد أكل في اليوم السابق ربع رغيف ألقاه طفل في سوق الخضار، وتناول ثلاث حبات بندورة نصف “مخمجة” تدحرجت من يد “الخضرجي”.
كانت السكّين التي تلقّاها دافعاً كافياً لـ”جميلة” كي تُواعد غريمه، إذ ما عادت تبادله شيئاً، فتوطّدت علاقته بالشارع، وملّت أزقّةُ سقف السيل مواعداتِه الفاشلة. يتجنّب سبيل الحوريّات لذكرى الحادثة التي وقعت قربَه، فيلوذ بالمدرّج الروماني، أو الساحة الهاشميّة “يتسكّع” وصحبه، يلتقطون السيّاح ببيعٍ زهيد، من “دناديش” يدّعون أنها تراثيّة.
كلّ يوم يتعرقل بقدمَيّ “ختيار” متمدّد على الرصيف، لكنه لا يقف لمجادلته، فكلّ عرقلة تسبقها حالةٌ تستوجب الرّكض، والنّشل “خفّيّةٌ” وتَخَفٍّ، تسانده الحطّة التي تغطّي المنتصف السفلي لوجهه على ذلك. نشلُ السيّدات أسهل، فغالباً ما تكون الغلّة في حقيبة اليد، أمّا الرجال فيتطلّب الأمر معهم وقتاً لتحديد الجيب التي تخبّئ المحفظة.
الحقّ على “الختيار”، فهو لا يلتزم برصيف ثابت حتى يحفظ “عاهد” مكاناً له، لكنه يسترزق من الشحادة، وهي تتطلّب “الخفيّة” أيضاً.
نشلٌ وسكْر وقمار وفرض خاوات، هكذا عهدت الناسُ “عاهد”، فحاروا في السبب الذي جعله يؤوي “الختيار”، يُطعمه بيده، ويحرص على أن يناوله الدّواء بعد أن يحصل عليه بـ”الخاوة” من الصيدليّة المجاورة. حتى إنه يصطحبه أحياناً في نزهة إلى سوق الحرامية.
مكائد جميلة في التخلّص منه باءت بالفشل، حتى تَقبّلته أمراً واقعاً، المطبخ مُستقرُّه، لكنه يكشف الغرفة المجاورة الوحيدة من بابه المخلوع، فاهتدت وعشيقَها إلى وضعِ ستارٍ رفعَ ذراعيه في منتصف الغرفة، وغالباً لم ينسيا إسدالها.
وقف على الرصيف نفسه الذي انتشله منه يتذكّره، هو حقاً يفتقده، يفتقد طاقيّته التي كان يخفي تحتها وجهه المليء بحروق الشمس لمّا ينام، وشبابيكَ سوداء تطلّ من بين أسنانه لمّا يضحك، وقلّما كان يفعل.
تذكّر أبناءه وغبطته لأنهم لم يستطيعوا إجبارَه على التنازل عن ممتلكاته. خمسةٌ وألقوا به، ياااااه، ماذا ستفعل به “جميلة” حينما يكبر! هل ستتقبّل عجزه الثاني؟
– “الله يرحمه، حتى أولاده ما مشوا بجنازته!”.
هذه الجملة لم تكن مونولوجاً، بل قالها لصديق “الختيار” الذي وافاه مشياً بعد انقضاء مراسيم الجنازة، في مقهى لا يدفع به “عاهد” قرشاً، ليس من باب المحبة، بل انصياعاً لـ”الخاوة”، وإلا فالنتيجة تحطيم المكان برمّته.
– “مَرّ عليّ قبل وفاته بفترة، وأعطاني هالمغلّف إلك”.
مدّه إليه، يراقب أظافره الوسخة وهو يتلقّفه..
– “ما بعرف أقرا”.
– “دبّر حالك، المهم بكره الصبح ما تطلع من الدار، جايّك حدا من طرف المرحوم”.
وابتلعه الازدحام، عاد يلوّح بالمغلّف مطمئناً إلى قراءة جميلة.
ألفى عشيقها في البيت، فتفجّرت الدنيا في رأسه؛ “جميلة”، سبيل الحوريّات، سوق الخضار، الموت والعشيق الذي يأويه زعيمُ النشّالين، هجم عليه.. وأحاله حطاماً، الصعقة الكهربائية التي تخيّلها حدثت، لكن لم يفسح مجالاً للمعايرة؛
– “بيكفّي،.. انت طالق”.
أطلقت زغرودة عالية المدى، واختفت.
بكى كثيراً حدّ الضحك، وضحك ثملاً حتى بكى، ثمّ نام. وكما تنتهي حكايات الجدّات الملأى بالمفاجآت السعيدة:
– “قوم، أبو عون سَجّل باسمك دار.. ومصاري كمان”.
فتح عينيه ورجلٌ ينكزه، رفع يده يداريهما عن ضوء الشمس؛
– “الختيار!!!”
_____
*كاتبة من الأردن
*كاتبة من الأردن