العلامة.. الجسد.. الاختلاف بغداد تحتفي بفيلسوف الغابة السوداء


*نزهة صادق

ما زال الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر (1889 – 1976) يشغل حيزاً كبيراً في عالم الفكر الفلسفي المعاصر؛ فعلى الصعيد العربي وجد فيلسوف الكينونة والوجود والزمان اهتماماً واسع النطاق في مباحث الفلسفة العربية داخل أسوار الجامعات وخارجها منذ نشر الفيلسوف المصري الدكتور عبد الرحمن بدوي (1917 – 2002) كتابه (الزمان الوجودي) باللغة العربية عام 1943، الذي كان باكورة مهمة في الدراسات الهيدغرية، ومن ثم كتابه (دراسات في الفلسفة الوجودية) عام 1980، وربما قبله وُجدت بعض الإشارات إلى فلسفة هيدغر، إلاّ أن ما أسس له بدوي، وهو ينفتح على النَّص الهيدغري، قارئاً ودارساً ومُفلسفاً، صار مفتاحاً لاهتمامات قرائية وترجمية عربية عديدة لاحقة نراها تستمر حتى يومنا هذا في ظلِّ الإقبال الحميم على ترجمة بعض نصوص هيدغر المهمة، ودراسة فلسفته، ولعل ترجمة الفيلسوف التونسي الدكتور (فتحي المسكيني) الدَّسمة لنص هيدغر العمدة (الكينونة والزمان) عام 2012 تعدُّ مؤشراً واضحاً على ذلك الإقبال الجاد،وإن بدا ذلك إقبالاً شخصياً من جانب المسكيني على فلسفة هيدغر، وهي الترجمة التي ستفتح أفاقاً جديدة لدراسة مفاصل تلك الفلسفة، خصوصاً في حدود الكون الدلالي لمصطلح (الكينونة والزمان) أو مصطلح (الوجود والزمان) أو مصطلح (الكون والزمان) بحسب الترجمات العربية المختلفة، رغم أن ما تُرجم حتى الآن من مؤلّفات هيدغر هو قليل مقارنة بما كتبه وألَّفه ونشره حتى رحيله.

في ظل ذلك، صدر أول كتاب عن مارتن هيدغر يتناول ثلاثة مفاهيم مركزية في فلسفته هي “العلامة والجسد والاختلاف” للدكتور رسول محمد رسول عن دار عدنان للطباعة والنشر، بواقع مائة وعشرين صفحة من الحجم المتوسط.
عن حيثيات وفادة رسول على دراسة هذه المفاهيم الثلاثة، يقول موضحاً: “منذ بدأتُ أقرأ نصوص هيدغر المتاحة باللغة العربية، وأنا تلميذ يقصد تعلُّم الحكمة الفلسفية في كلية الآداب/ قسم الفلسفة – جامعة بغداد، ابتداءً من مطلع ثمانينيات القرن العشرين، كانت مفاهيم هيدغرية عدَّة تستأثر باهتمامي، ومنها: العلامة، والاختلاف، والجسد، وهي المفاهيم الثلاثة التي اشتغل عليها هيدغر في غير كتاب من مؤلَّفاته الكثيرة. ولهذا، وجدتُ من المناسب، وفي كتابي المتواضع هذا، دراستها بالعودة إلى المتن الهيدغري الفلسفي ذاته، وهل هناك أجمل من الإنصات إلى صوت المتون الفلسفية؟”.
إن فصول هذا الكتاب الأربعة، لا تعدو أن تكون مقاربات قرائية لدلالات هذه المفاهيم الثلاثة ذات الأهمية الكبيرة في فلسفة هيدغر من دون نسيان أو هجران الفضاء الأنطولوجي الذي تسبح فيه؛ فكل المفاهيم التي اشتغل عليها هيدغر، وفي كل مؤلَّفاته، دارت في ذلك الفضاء وهو الحريص على بناء فلسفة أنطولوجية أساسية تجشَّم عناء رصها منذ محاضرته الباكرة عن (مفهوم الزمان) عام 1924، تلك المحاضرة التمهيدية لكتابه (الكينونة والزمان)، الذي صدر في طبعته الأولى وباللغة الألمانية عام 1927.
في سنوات حياته، كان هيدغر قد أبدى اهتماماً بالترجمة حتى قال عنها مرّة: “بالترجمة إنما يتم نقل عمل المفكِّر إلى روح لغة أخرى”. ولذلك، حرص رسول المولود في مدينة الكوفة عام 1959 على تضمين كتابه هذا مقالة له كتبها احتفاء بترجمة الدكتور فتحي المسكيني، وبمراجعة الدكتور إسماعيل المصدق لكتاب (الكينونة والزمان)، الذي صدر عام 2012، والذي فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها السابعة عام 2013. وبذلك، يضمُّ هذا الكتاب المركَّز في لغته التحليلية أربعة فصول تتناول خطاب هيدغر الفلسفي في العلامة، وفي الاختلاف أو الفرق الأنطولوجي، وفي الجسد، إلى جانب الحديث عن ترجمة كتاب (الكينونة والزمان) الأولى إلى العربية.
يبدو أن فصول كتاب (العلامة.. الجسد.. الاختلاف: تأملات في فلسفة مارتن هيدغر) لن تختم المقروء الهيدغري على حدود العلامة والاختلاف والجسد والترجمة، بل يرجو رسول أن تفتح آفاق هذه المفاهيم الرحبة وغيرها من المفاهيم الهيدغرية شديدة العمق والأصالة والتأثير في المشهد الفلسفي العربي والعالمي على قراءات أخرى مثمرة العطاء.
يُذكر أن رسول أهدى كتابه هذا إلى معلِّمه الكبير الدكتور (قيس هادي أحمد)، أستاذ كرسي الفلسفة الألمانية في العراق، والذي كان أشرف على أطروحتيه للماجستير والدكتوراه في (كلية الآداب – جامعة بغداد) بين عامي 1993 – 1997.
وقد أكد الدكتور رسول محمد رسول المقيم خارج العراق منذ نحو عشرين عاماً، في اتصال هاتفي مع ذوات، بأنه “أنجز كتاباً آخر عن فلسفة هيدغر يقف عند منعطفات فكرية متميزة في فكر هذا الفيلسوف وحياته، وسيصدر الكتاب في عام 2016 بالحجم نفسه الذي صدر به كتابه الحالي”.
أما عن كون كتاب (العلامة.. الجسد.. الاختلاف: تأملات في فلسفة مارتن هيدغر) هو أول كتاب ورقي يصدر لكاتب عراقي في بغداد، فقد أوضح رسول، وهو الباحث المتخصص في الفلسفة الألمانية منذ عام 1993، بأن “دراسات أكاديمية عراقية سبقته في ذلك،نهض بها الدكتور كريم الجاف (الجامعة المستنصرية)، والدكتورة فاتن مريوش (جامعة بغداد) على التوالي، فضلاً على باحثين عراقيين آخرين، إلاّ أن كتاباً ورقيا مستقلاً يتناول فلسفة مارتن هيدغر، ما شهد النور في بغداد إلا مع هذا الكتاب، الذي يأمل رسول بأن يكون باكورة فاتحة لدراسات أخرى عن فلسفة هيدغر بوصفه الفيلسوف الذي فتح للقرن العشرين شهية فلسفية رائقة، لا سيما أنه يتصدّى لمفاهيم غير مطروقة سابقاً لدى باحثي الفلسفة الهيدغرية كمفهوم (الجسد)، واختلافه عن مفهوم (الجسم)، كذلك مفهوم (العلامة) في أنطولوجيته السيميائية، ناهيك عن مفهوم الفرق بين الوجود والموجود الذي تناوله بضعة باحثين من ذي قبل.

_______

*ذوات 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *