عتبة الغابة الزرقاء


*سامي البدري

أن يكون الإنسان ليس أكثر من اتفاق برجوازي، منعطف يضعنا في مواجهة حجم الخداع الضبابي الذي ظللت به، مقترحات وأفكار وأيديولوجيات ومقتنيات أكليروسية، مرايانا لتمنعنا من رؤية مساحة وعينا على حقيقتها.

إن أول إحالة تحيلنا إليها مقولة إن (الإنسان اتفاق بورجوازي، وهي للروائي الألماني هرمان هسه) هي التوقف عن مؤازرة على أقل تقدير الفلسفة، في جهدها التوصيفي والتحليلي، والوقوف منها ومن جهدها موقف التشكيك، لأنها وبكل بساطة، تكشفت أمام مسيرة العلم وجهده التكنولوجي وما خلفته طفراتهما من شروخ في قوالب (ولن أقول بداهات) الروح، تكشفت عن عجز مخجل عما سوى التوصيف… وأحيانا قليلة، التأطير الهلامي، خاصة في مراحل ما قبل ظهور سورين كيركغارد، الأب الشرعي للفلسفة الوجودية.
علينا، في هذه المرحلة من هذه الورقة، أن نتذكر أن البورجوازية كانت التطور الطبيعي لإقطاعية ما قبل وما بعد الثورة الصناعية، وأن هذه الثورة كانت الحلقة الأشرس في إنتاج البورجوازية، كأيديولوجية وثقافة، وأن البورجوازية كانت بقعة الزيت التي غطت أحيانا، وموهت في الأحيان الأخر، مساحة الحرية، كثقافة ووعي إنسانيين أصيلين، بما اقترحته من (دين) جديد طالبت بالإيمان به من دون تشكيك أو حتى مجرد حوار. وفي الوقت الذي أخذت فيه مساحة هذا الاتفاق بتكريس مرتكزات هيمنتها، كبنى مفاهيمية وفلسفية، كان الجهد الفلسفي مشغولا بلوم الإنسان على اتساع مساحة مراراته، بدل الأخذ بيده وبوعيه للوقوف على عمق الهوة التي كانت أسئلته تدفع به إليها، على أقل تقدير.
ما بنى عليه الدارسون والفلاسفة الألمان، الفلسفة الوجودية، كانت مقولة الدنماركي، سورين كيركغارد، التي كانت بمثابة الصرخة الكبيرة بوجه التمدد الأخطبوطي لشراهة دين البورجوازية الجديد (الذي يقوم على فكرة استعباد الإنسان في العمل الذي يستهدف زيادة أرباح أصحاب رؤوس الأموال): إذا أردت أن تنفيني، ضعني ضمن نظام؛ إنني لست رمزا حسابيا؛ إنني أنا، وهذا معناه أنه آن لي أنا الفرد أن أقول كفى (لموضوعيتكم) التي ترهلت لتبتلع كامل ذاتي وحريتي، أو: أن الحقيقة هي الذاتية وليست الموضوعية، وهذا يعني: ليتوقف النظام، والنظام بشكله السياسي والاقتصادي والاجتماعي عن مسخي وتحويلي إلى جزء من ماكنة مصيرها الموت، لأن هذا الموت، بحد ذاته، هو الجزء الأساسي من المشكلة وسؤالها الأكبر.
طبعا كان من العسير، بل المستحيل، على الوضعية المنطقية والمادية والمثالية تقبل مثل هذا الفهم (كموضوعية) جديدة، لأنه لم يكن نتيجة استدلال عقلي معرفي، وإنما (حاجة عاطفية) فرضتها مساحة المرارات النفسية التي خلفتها مؤامرة الاتفاق البورجوازي على الكيان الفردي، الذي لم يعد له من هم، في بلد العميان الذي صنعته بورجوازية الحضارة الحديثة، غير تحسس كيانه كفرد أولا، والمحافظة على ما تبقى من حريته (سعادته الحيوانية أو البدائية) ثانيا.
وفي هذه اللحظة يكون بمقدورنا التجاوز والاختصار بالقول، إن مرحلة ما بعد إعلان إفلاس المثالية والوضعية المنطقية، كانت بحاجة لإعلان آخر أشد أهمية، وهو ما تصدت له الفلسفة الوجودية: إزالة الضبابية عن المشهد والوقوف أمام مرآة الفلسفة والوجود وكتل التنظير الوجودي والأخلاقي بعري تام ليصرخ الفرد منا: أين أنا من كل هذا؟ أنا ضحية اتفاق بورجوازي فعلا… ولا أكثر.. فمن خدعني يا ترى؟ مثالية هيغل البكماء؟ من ضلل أذنيّ إذن عن سماع صراخ، الرحيم بمصيري، فريديك نيتشه ومن أعماني عن رؤيته؟ والسؤال الأهم: هل كنت أنا ذاتي جزءا من تلك التعمية..؟ بمعنى: هل كنت أنا جزءا من الاتفاق البورجوازي أو أحد تروسه الصغيرة المهملة؟ إن كنت فقد دفعت إليه دفعا ولم يكن خيارا شخصيا، بقوة النظام المؤسساتي، سياسي واجتماعي.
هذا الوضع المزري أفرزه إفلاس الفلسفة بالدرجة الأولى، لأنه أسلمنا، خاصة بعد استفحال وضع ما بعد الثورة الصناعية، إلى حالة اليأس والفراغ التي تقول: لا شيء يستحق بذل أي مجهود، خاصة بعد تحول كل علائم الحياة التي ولدت مع الإنسان إلى نوع من الميكانيكية الانتاجية التي جعلت (البشر يموتون كالحيوانات لا كالبشر) بتعبير ارنست همنغواي. السؤال الأشد إلحاحا الذي يواجهنا اليوم، والذي جاء كنتيجة لتجربة قرنيّ ما بعد نضوج الثورة الصناعية وحضارتها المادية، هو: كم ربح الإنسان مقابل عبوديته للجسد؟ فقد أفرزت الثورة الصناعية سلسلة هلامية من الحاجات الجسدية التي لا تريد أن تقف عند حد، ولا تريد أن تصل إلى ذروة، كذروة قصة مأساوية، ليبدأ بعدها الحل.. ولا نقول هذا هنا كنوع من الحنين إلى الموت كالبشر أو رفضا للموت كالحيوانات، إنما من أجل الحصول على فسحة للتأمل ومناقشة أهداف الموت واتخاذ موقف جدي من أغراض اشتغالاته، المادية والمعنوية، واتخاذ القرار بشأن هذه الاشتغالات، وإذا ما كانت أهدافها دنيوية تنظيفية فقط أم لكونها طريقا لبداية جديدة… وفي هذا الجانب بالذات، مر علينا وقت طويل جدا ونحن نقف على ساق واحدة… وحان الوقت لنضع ساقنا الثانية… فأين سنضعها وعلى أي أرض؟ إنسان القرن الواحد والعشرين لا يكتفي، لشدة المرارة التي يعاني منها، بأن يضعها على مجرد أرض، بل يحتاج لأرض صلدة ونهائية وتناسب شكل قدمه أيضا!
هل يبدو هذا تبسيطا مخلا، في النظرة، لحجم مشكلة بحجم حضارة القرن الواحد والعشرين؟ فاليوم ثمة آلاف من مصانع السيارات ومئات من مصانع الطائرات وملايين من مصانع الهواتف النقالة وعشرات الملايين من مصانع التلفاز وباقي الحاجات والسلع المعمرة… وملايين من الجامعات التي تدرس العلوم الحديثة وتخرج المتخصصين فيها، وأكثر من مئتين من الإدارات، التي تحسب لكل شيء حسابه، من أجل إدارة الدول.. فهل هذا مجرد عبث لا طائل من ورائه وكان مضيعة للوقت والجهد؟
عناصر وأفذاذ الاتفاق البورجوازي (بمقصد العبارة المجازي طبعا) يقهقهون ساخرين ويتهمون هذا المنطق بالهبل وبالجنون المطبق أيضا، لأنهم يرون أنفسهم محور الكون وأن وجودهم ضروري، لأنهم يفضلون أن يعيشوا كالحيوانات ومتصالحين مع أنفسهم، على فكرة أن لا شيء أفضل مما في أيديهم، ولو كان ثمة أفضل لكان الله قد حباهم به، لأنهم سادة الحياة ويمتلكون أفضل ما فيها، والدليل أن من بينهم خرج العلماء والساسة وكبار قواد الجيش… وإلى آخر القائمة!
بطريقة من الطرق، تكاد الفلسفة، باستثناء الفلسفة الوجودية، أن توافق على هذا المنطق، يقول الوجوديون، خاصة سورين كيركغارد وجان بول سارتر (قبل تحوله إلى الشيوعية) وألبير كامي وأرنست همنغواي (قبل تحول الأخير إلى منظّر لرؤية تمجيد القوة، التي تحولت إلى فلسفة خاصة بعقل المؤسسة الأمريكية).. طبعا جوزت لنفسي مثل هذا التبسيط كي أتمكن من تقريب وتسويّغ فكرة أن أزمة إنسان القرن الواحد والعشرين هي نتيجة للأزمة التي تعيشها الفلسفة، إزاء العلم وإنجازاته التي طوت الكثير من الصفحات تحت قدمها، من دون أن تجد من يخطئها ويقف في وجهها.. وهي أزمة أكبر من الأزمة التي عاشها جيل الشباب الغاضبين في أوروبا، ومن أطلق عليهم، الانكليزي كولن ولسن، اللامنتمين، عقب الخراب الروحي والنفسي الذي خلفته الحرب الكونية الثانية على وجه الخصوص، لأن عالم الربع الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، بات عالما بلا قيم فعلا ويعيش حالة من التضاد الروحي الذي أعلنت أمامه الفلسفة عجزها وانسحبت إلى ظلال الأروقة الجامعية، لتتركه يتخبط في مرارات العجز والضياع وهو يردد: ما الذي خسرت مقابله، روحي وحريتي؟ دواء البنسلين والطيارة والهاتف النقال والتلفاز الذي ينقل إلي صور قتل الأسلحة الحديثة؟ ولكن هذه المنجزات لم تمنع الموت عن سادة الاتفاق البورجوازي الذين اخترعوها، فبم ستخدمني وهي تحرمني من الموت كالبشر… بل وتجبرني على الموت كالحيوانات؟
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *