فرجينيا وولف.. رصد الانهيار الخاص


*فوّاز حداد

“عزيزي، أشعر بثقة أنني أصير إلى الجنون مجدّداً. أشعر أننا لن نستطيع أن نمرّ بأوقات عصيبة أخرى. ولن أتعافى هذه المرة. بدأت بسماع الأصوات، ولا أستطيع التركيز. لذا أفعل ما يبدو أنه أفضل شيء يمكن فعله. لقد قدّمت لي أعظم سعادة ممكنة. لقد قدّمت لي بكل الطرق أقصى ما يمكن لأيّ أحد أن يقدّمه. أنا لا أعتقد أنه بإمكان أيّ شخصين أن يكونا سعيدين هكذا، حتى جاء هذا المرض اللعين”. هذا جزء من رسالة تُعتبر من أشهر رسائل الوداع التي كُتبت في تاريخ الأدب. كتبتها الروائية الإنجليزية، فرجينيا وولف، إلى زوجها. أمّا الأوقات العصيبة التي مرت بها فهي تحكم وساوس الجنون والمرض والموت فيها منذ سنوات مراهقتها، رافقتها من حين لآخر في حياتها، كانت على الدوام خائفة من أن تصاب بانهيار عقلي. كتبت فرجينيا رسالتها في 28 مارس/آذار 1941، وكانت في حالة اكتئاب شديدة. في ذلك اليوم، لم تستطع التغلّب على الأصوات، ولا صداع رأسها. “لا أستطيع المقاومة أكثر من ذلك. أعرف أنني أفسد حياتك، وأنه بإمكانك العمل بدوني. وستفعل كما أعرف. أنت ترى أنني حتى لا أستطيع كتابة هذا جيّداً. أنا لا أستطيع القراءة. ما أريد قوله إنني مدينة بكل سعادة حياتي لك. لقد كنت صبوراً تماماً معي وطيّباً بشكل لا يُصدّق”. 

اعتنى بها زوجها، ليونارد وولف، طوال سنوات زواجهما، وقاسمها شقاءها، ولم يكن بوسعه تخفيف وساوسها القهرية التي كانت تمزّقها. ربما كانت آلامه تعادل آلامها. 
“أريد أن أقول، وكل الناس تعلم، لو كان باستطاعة أيّ أحد أن ينقذني لكان أنت. كل شيء رحل عني باستثناء حقيقة طيبتك. لن أستطيع الاستمرار في إفساد حياتك أكثر من ذلك. ولا أعتقد أن هناك شخصين كان بإمكانهما الحصول على سعادة أكبر مما كنا فيها”. 
ثم ارتدت معطفها، ملأته بالحجارة وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها. وجد زوجها جسدها بعد عشرين يوماً.
على الرغم من بساطة كلمات الرسالة ومأساويّتها، ووضوح القصد منها، فهي رسالة حب وجنون ومرض لعين واعتراف بالجميل والذنب، وشعور بالرضا عن سعادة قديمة، وعدم دوامها، بل وفوات الحصول عليها… كانت أكثر من رسالة انتحار، ويمكن اعتبارها خطاب فراق، لنفسها ومرضها والأصوات التي تلاحقها، والشعور بالكآبة، وهواجسها المزمنة… آسفة على أمر واحد: فراقها لزوجها.
في مقطع أخير دوّنته في يومياتها، كتبت: “إنني أتذكّر وأحفظ عبارة هنري جيمس “ارصدوا ما حولكم بشكل متواصل. ارصدوا قدوم العمر”… أنا نفسي أرصد انهياري الخاص. بهذه الطريقة كل شيء يمكن أن يكون مفيداً، أو هذا ما آمله على الأقل. لذا أحاول أن ألتقط من الزمن أفضل ما يعطيه.
أفضل ما أعطاه إيّاها زمانها، الحب. والأسوأ ملامسة الجنون، أما المفيد فالخلاص بالانتحار.
_____
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *