ارنست همنغواي نموذج لفشلنا


*سامي البدري

ما سنناقشه هو الفشل، ولكن ليس بمعناه الذي يضاد النجاح، وإنما بمعناه الذي يثمر خيبة التجربة، خيبة قضاء عمر بكامله في محاولة الإمساك بخيوط الشمس والعودة بيد فارغة في النهاية. 

الفشل بمعناه الفلسفي الذي يختصره سؤال: أين الحياة التي ضيعنا في العيش، والتي قادت تجربتها في النهاية، أمثال نيتشه وإرنست همنغواي إلى الجنون والانتحار؟ الفشل الذي يشعرنا في النهاية أن حياتنا لم تكن، في النهاية، أكثر من انتظار لما لا يأتي، في نهاية إنتظارنا المهمل، ونحن نقبع في زاوية متربة في غرفة ضيقة.
إن المعضلة الكبرى التي واجهتها الفلسفة، في تطورها وفي سعيها لإيجاد مخرج للإنسانية، تتمثل في ضحالة تفكير وقصر رؤية أركان الاتفاق البورجوازي، الذين اختزلوا الحياة في أن يكون لكل يوم فيها صحن طعام جديد وزجاجة نبيذ أخرى، وبعض من قضايا السلطة التي تنفخ أوداجهم لتشعرهم بأهمية وجودهم وضروريته في تحريك شؤون العالم المحيط بهم.
إن أفراد هذه الطبقة، وهم الكم الأغلب من البشر، استرضى لهم قصور وعيهم في أن يتكيفوا مع فكرة كونهم (أجزاء في آلة عظيمة تعمل من أجل الخير النهائي) الذي هم مركزه وصناعه؛ وهذه الرؤية (وهي ليست أكثر من مرتكز حياتي/ معيشي) هي التي أنتجت حالة الإيمان الوهمي، التي صارت تغلف حياة الإنسان من كل جوانبها وفي كل نواحيها، وبالتالي مررت وضع أن يكون (الناس الأشد دموية وعنفا هم في الوقت نفسه أشدهم تمدنا وحضارة)، وأن يكون هذا الوضع المختل هو الوضع الأكثر قبولا وانسجاما مع نوازع الإنسان، بل وفطرته الطبيعية.. فهل فطرة الإنسان سيئة إلى حد اليأس من إصلاحه؟
لقد أثبتت سنوات حياة الإنسان الماضية على الأرض أنه يعيش في (زاوية متربة من غرفة ضيقة)، بحسب توصيف دستويفسكي، وأن كل مساعيه للخروج من هذا الوضع قد باءت بالفشل، بسبب ألا مكان أو لا وضع آخر له، أو يستطيع تحقيقه أو الوصول إليه.. وهذا يعني أن ولادة أي انسان جديد وإضافته إلى سجل الحياة لا يعني بالضرورة ولادة أو إضافة تفكير جديد للوجود، ببساطة، لأن وجود ست مليارات من البشر على ظهر الأرض حاليا، لم يعن شيئا أكثر من شروق الشمس وغروبها وتواصل نمو الأشجار بطريقتها القديمة نفسها، واستمرار الذباب على التكاثر وإزعاج البشر، والحيوانات على العيش بطريقتها القديمة نفسها، وأيضا إصرار ديكة الحقول على صياحها المزعج بالمواعيد المنغصة نفسها، لمن يكون قريبا منها ويسمعها.. ولكن ومع ذلك، تبقى الحياة (مقبرة ثمينة رائعة)، كما يقول دستويفسكي على لسان ايفان كارامازوف، بأعين خمسة مليارات ونصف المليار من مجموع المليارات الستة، ممن يفضلون غض نظرهم عن مساحة الموت التي تنتظرهم لترصفهم في قبور، متماثلة المساحة والجهامة، ولتسقطهم من سجل الحياة والوجود إلى الأبد، بطريقة تثير الشفقة والسخرية معا.
لماذا يموت الإنسان بهذه الطريقة الساذجة البائسة، التي تخلع عنه أي معنى من معاني الأهمية ويعيش هو متناسيا مثل هذا المصير الذي ينتظره؟ هل الإنسان تافه إلى حد الموت كالحيوانات والتحول إلى جيفة قذرة؟ هل تناسي مثل هذه النهاية المقززة، مجرد نوع من الغرور والتجبر الفارغ أم هو ثقة بمستقبل سيأتي، رغم تأخره؟
لم ترو لنا أي من أدبيات التأريخ أو بحوثه الرسمية أو حفرياته العلمية ولا حتى الأركيولوجية، أن ثمة من مات بطريقة مغايرة لموت البشر المألوفة، بما فيها رواية القديس بولس أو الكنيسة عن موت المسيح، لأن هذه الرواية تؤكد أيضا موته ـ المسيح ـ بالطريقة البشرية نفسها، قبل قيامته بعد ثلاثة أيام وصعوده إلى السماء؛ فمن أين يأتي إيمان الإنسان أو ثقته، ويعيش إلى آخر لحظة في حياته، على أنه في حرز من الموت أو أنه لن يلاقي مصير غيره في موت الحيوانات، الذي التهم آباءه وأجداده وحولهم إلى مجرد رفاة نتنة؟
لماذا يرى جميع الناس، باستثناء نخب الفلاسفة والأدباء الحقيقيين، وبعض زهاد المتدينين، أن كلا منهم هو محور الحياة وأن شخصه بمنتهى الضرورة للوجود؟ أهو مجرد غرور ذاتي أم ثقة بمجهول الكون الذي قد يأتي في أي لحظة ليوقف عجلة الموت العمياء، التي لا يرى لها أغلب الناس من مبرر منطقي أو معقول؟
وهذا يعني، وهذا هو أهم جانب في القضية، أن الغلبة الغالبة من البشر لا تشعر بالفشل، أو في كونها أجبرت على خوض تجربة فاشلة، إلا في الأعوام أو الأشهر أو الأيام الأخيرة من حياتهم، أو وهم على أسرة الموت في غرف الإنعاش، وروائح الأدوية والمطهرات تزكم أنوفهم المتعبة وتذكرهم أن سلطان الموت المبدّد والملغي لذواتهم، بات يجلس على حافة نافذة غرفة الموت البيضاء المعقمة.
لماذا يأتي شعور وقناعة البشر بالفشل في الساعة الثانية عشرة إلا خمس دقائق من حياتهم (بالمقصد المجازي للاستعارة طبعا) ولا يأتي في الساعة الواحدة فجرا؟ وهل يا ترى لو جاءت هذه القناعة في الساعة الواحدة فجرا لمات أغلب الناس وهم بصلاح القديسين؟
المشكلة أن البشرية لم تتعلم إلى اليوم، ولم تبذل أي من مؤسساتها التعليمية أو التربوية جهدا في تعليم نفسها، أن يبدأ أفرادها حياتهم بالسؤال: كيف يسعني أن أمارس حياتي بحيث لا تكون فشلا أو أن أواجه الفشل نفسه الذي صادفه المليارات من البشر قبلي؟ وطبعا نقصد هنا بالفشل: الحصيلة النهائية التي تنتهي بالموت، لا الفشل في تحقيق الشروط المادية للمعيش اليومي.
هل يموت الناس فاشلين أو بسبب الفشل، أو وهم يملؤهم شعور الفشل الممض، أم يموتون وهم مفعمون بشعور الرضى والامتلاء؟ لنأخذ حياة الروائي الأمريكي ارنست همنغواي مثالا هنا؛ فقد عاش همنغواي حياة ناجحة وسعيدة بكل المقاييس المادية.. فهو ككاتب، حقق نجاحا وشهرة كبيرين، بتأليفه لمجموعة من الروايات الممتازة (توجت مسيرته الإبداعية بفوزه بجائزة نوبل، وهي أرفع جائزة أدبية يحلم بها كاتب) التي حققت له الغنى والشهرة وامتلاك قصور فخمة في كوبا والولايات المتحدة، إضافة إلى المال الوفير الذي حقق له القدرة على السفر إلى إسبانيا لحضور مواسم مصارعة الثيران، وإلى غابات ومجاهيل أفريقيا لممارسة هوايته الأثيرة في صيد الحيوانات المفترسة، تلك الهوايتان اللتان تقعان ضمن محور فلسفة القوة، ولعبة فرض الإرادة، التي كان يؤمن بها ويمجدها، والتي صارت بفضل نتاجه الروائي والقصصي عنوانا للايديولوجية الأمريكية الرسمية، التي تقوم على فلسفة تمجيد القوة وفرض السيطرة على باقي الشعوب والبلدان.. ولكن، ورغم كل هذا الرفاه والنجاح الطاغي، خاصة بعد تحويل هوليوود لأغلب رواياته إلى أفلام سينمائية، وإطباق شهرته على أركان الأرض الأربعة، نراه يدخل الغرفة المهملة في قصره الريفي ليحطم جمجمته بإطلاقة من بندقية صيده الأثيرة التي رافقته في جولات صيده في أغلب غابات أفريقيا التي مارس فيها هوايته تلك، كما تروي زوجته الثانية وكاتب سيرته الذاتية.
فأي شعور يائس دفع هذا الكاتب الكبير والناجح إلى الانتحار غير شعور الفشل؟ إرنست همنغواي، مؤلف رواية «الشيخ والبحر» التي ضمنها أبلغ عبارة تمجد إرادة القوة (من السهل أن يموت الإنسان لكن من الصعب أن يهزم) مات مهزوما (منتحرا) لشعوره بالفشل الذريع… أمام ماذا؟ ما الذي هزم ارنست همنغواي ممجد القوة؟ ما الذي ملأ روح همنغواي بالفشل، وهو الذي يروي عنه كاتب سيرته الذاتية، أنه واجه يوما دبا متغطرسا بلا سلاح ليوبخه ويطرده، لأنه كان يقطع الطريق على سكان إحدى القرى الأفريقية ويمنعهم من المرور في الطريق الوحيد الذي يقودهم إلى المدينة؟ 
يقول كاتب سيرة همنغواي الذاتية، وكان صديقه المقرب الذي رافقه في أغلب جولات صيده الأفريقية، إن ذلك الدب المتغطرس لم يظهر ثانية في المنطقة ولم يزعج سكان تلك القرية، بعد أن وبخه همنغواي وأهانه؛ لكن همنغواي، وبعد عودته من تلك الجولة الأفريقية، نراه يختلي بنفسه في الغرفة القصية من قصره ليطلق النار على رأسه، بسبب شعور ممض بالفشل الذريع، ناسفا إيمان شيخه «في رواية الشيخ والبحر» وقناعته بإرادته، وهو يصارع سمكته العملاقة: سأصطادك ولن أستسلم أيتها السمكة المتجبرة، لأنك قد تقتليني ولكن من المستحيل أن تهزميني… ولكن فشل ما هزم همنغواي وأجبره على الانتحار الجسدي وقتل إرادة قوته التي عاش ممجدا لها طوال حياته.. فأي فشل ذاك الذي هزم بطل القوة همنغواي؟… وللحديث بقية.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *