ثورة الابتسامة في باريس في القرن العشرين


*كاثرين هيوز – الجارديان/ ترجمة: أزهار أحمد

تهدف هذه القراءة في كتاب «ثورة الابتسامة في باريس في القرن العشرين» إلى تحليل تاريخ الابتسامة منذ أن كانت تعتبر فعلاً غير لائق، إلى لحظة تبدد تلك الفكرة.

في خريف 1787م شاركت الرسامة الفرنسية المشهورة إليزابيث لويز فيغ لوبرون في معرض بمتحف اللوفر تسببت فيه إحدى لوحاتها باضطراب وقلق للباريسيين الزائرين للمعرض. كانت تلك اللوحة بورتريها ذاتيا تقليديا نوعا ما، رسمت فيه نفسها وهي تحمل رضيعتها في لقطة أمومية تمكنت من خلالها استدعاء شكل الأمومة التاريخي لمريم العذراء، والشكل الطبيعي الأمثل للأمومة لدى البورجوازيين. لكن كان باللوحة مشكلة تكمن في فم الأم. كان منفرجا عن ابتسامة صغيرة. لم تكن ابتسامة متكلفة وغامضة كابتسامة الموناليزا، بل كانت ابتسامة طبيعية وحقيقية أظهرت أسنانها. فهل كانت إليزابيث لويز فيغ لوبرون بتصرفها ذاك، مجنونة أم وقحة أم ثورية همجية؟ وبالطبع لم يكن للزوار من حل وقتها إلا عبور اللوحة وتجاهلها.يقدم كولينز جونز في كتابه البحثي الرائع «ثورة الابتسامة في باريس في القرن العشرين» دراسة توضيحية للفترة التي تعلم فيها الباريسيون الابتسام في منتصف القرن الثامن عشر. لأن البلاط في فرساي قبل ذلك كان قد أصدر أمراً صارماً بعدم الابتسام، وجزء من ذلك الحكم كان سببه الأسنان السوداء لأهم الشخصيات البارزة في فرنسا، التي فسدت بسبب الإفراط في تناول الحلوى. وبالطبع، كان منظرهم مثيراً للاشمئزاز ولا يعكس جمال القصر وهيبته. إضافة إلى ذلك، هناك سبب آخر، وهو أن التبسم ومنذ عهود قديمة لم يكن أمراً مقبولاً، وكان كل من يخاطر ويبتسم يصنف ضمن السوقيين أو المجانين.توسع الكاتب في بحثه حيث شرح التاريخ اللغوي لكلمة Sourire (ابتسامة) والتي جاءت من كلمتي sous-rire التي تعني ضحكة صغيرة. ولذلك صار الضحك بالتأكيد ينتمي للمراتب الدنيا، تماماً مثل التثاؤب أو إطلاق الغازات، أو القهقهة التي تخترق حدود المكان، التي إن أطلقتها فأنت ثوري مجنون، ولكن لن يكون ذلك في صالحك إن كنت شخصاً طبيعياً. وللضحكة المجلجلة المتهتكة نتيجة أسوأ، فصاحبها سيؤاخ بسببها سياسياً واجتماعياً. ولا عجب أن البلاط في فرساي فرض غلق الأفواه رافضا حتى الابتسامات الساخرة.
يقول جونز في كتابه: إن ذلك كله تغير في عام 1760، حين بدأ البلاط بالتخلي عن فرض هيبته على المدينة. وشعرت المدينة بحاجتها للابتسام. حينها بدأ البرجوازيون يبتسمون في العمل وفي المقاهي، كما بدأت الابتسامة تظهر أيضا في الأسواق المالية. وتدريجياً تحولت إلى شيء معدٍ، فاختفت الفجوة بين الأصدقاء والغرباء وأصبح من الممكن التوصل إلى حلول للصفقات وتبادل الآراء. وبينما كان ممنوعاً على النساء إظهار ابتسامتهن للعامة، أحدثت نساء الصالونات مثل: سوزان نيكر وماري ثيريسي جيوفرين فارقا عند تحية ضيوفهن بفم مقلوب للأعلى.
كل ذلك أدى إلى ثقافة جديدة من الحساسية تقدر تعبير الفرد عن مشاعره كمظهر أساسي لإنسانيته. وأصبحت الابتسامة الصادقة التلقائية حقا من حقوقك، فهي دليل على ذوقك وفطنتك وفوق ذلك كله على إحساسك. فهي رغم كل شيء أمر من الصعب تزييفه. وللاقتراب من ذلك أورد الكاتب قصة النبلاء المغامرين الذي هربوا إلى المدينة لقضاء أمسيتهم، محاولين العبور بابتسامة عريضة متكلفة، لكن سرعان ما اكتشفوا بسبب ابتسامتهم المزيفة وأرسلوا إلى فرساي حيث توجب عليهم إعادة رسم وجه البوكر الحزين.
هذا النوع من التاريخ يصعب البحث فيه، فعلى سبيل المثال يمكن البحث عن العظام القديمة حتى من مواقف السيارات، ويمكن اختبار الحمض النووي بعد قرون ولكن تعابير الوجه سريعة الزوال ولا تترك أثراً. نشر فيك جاتريل قبل ثماني سنوات كتابه الرائع «مدينة الضحك» الذي كان بمثابة قنبلة ساخرة لأواخر المرحلة الجورجية، إلا أن جاتريل كان يملك مئات من مطبوعات رولاندسون وجيلاري التي تدحض وجهة نظره حول السلطة السياسية لضحكة قذرة. ورغم أن جونز اشتغل على كتابه هذا مستخدماً مواد أبسط، إلا أنه مع ذلك استطاع أن ينجزه بشكل جيد مستندا إلى لوحات جان بابتيسي جروز الذي يمكن ملاحظة وصفه لحياة أفراد العوائل البرجوازية وهم يواجهون الفرح والحزن بابتسامة وقار وصبر على وجوههم.
إضافة إلى ذلك، أبدى الكاتب اهتماماً كبيراً بالنصوص المكتوبة، مشيراً إلى قراءات عموم الباريسيين، والتي تركزت في تلك الفترة على رواية «كلاريسا» لسامويل ريتشاردسون (1748) لم يكن بسبب حبكتها القوية فقط، ولكن أيضًا بسبب ابتسامة البطلة الجميلة. ثم أصبحت رواية «هيلواز الجديدة» لجان جاك روسو (1762) بمثابة الكتاب المقدس لمئات من نساء المدينة اللواتي حاولن أن يتشبهن بقسمات وجه بطلة الرواية جولي الرائعة، التي أسعدت الجميع بابتسامتها على الرغم من أنها كانت تحتضر.
إلا أن إثبات تحول كل تلك الابتسامات الواردة في النصوص واللوحات إلى الواقع، هو بالطبع أمر آخر. ولكي يثبت جونز وجهة نظره، أشار إلى ظهور نوع جديد من طب الأسنان، بعد طريقة علاج الأسنان القديمة التي تكمن في كماشة المهرج بالسيرك. حيث إنه ابتداء من عام 1720 كان بوسعك زيارة الشاب المهذب بيير فوشارد في عيادته المجهزة تجهيزا جيدا في المنطقة السادسة حيث يقوم بمعاملة كل سن على أنه أحد أصدقاء العائلة الذي كانت خسارته تؤدي إلى الأسف والحزن العميق. وفي منتصف القرن، أصبحت الرعاية مهمة أطباء الأسنان الباريسيين الجديدة. وبفضل تأكيدهم الدائم على أهمية نظافة الفم الجيدة اختفى رذاذ البصاق، ولم تعد رائحة الفم الكريهة تحول بين الشخص ورفيقه.
وبحلول الثورة في عام 1789، أي بعد سنتين من ظهور ابتسامة فيجي لو برون في متحف اللوفر، أصبح أي سبب بسيط كاف للتبسم. فلماذا يعبس الناس بوجوه بعضهم البعض؟
يتطرق الكاتب أيضاً إلى بدايات المرحلة الإصلاحية في عام 1793، والتي جعلت أسباب السعادة الخفيفة تختفي لتحل محلها الثرثرة الحاقدة والرعب. وإن تجرأت وخاطرت بالظهور بابتسامتك فأنت عدو بالنسبة للناس، لذلك كان على الجميع أن يستميتوا للتماشي مع الوضع. لم يكن الابتسام خيارا، بل هو طريق الموت. وأقصى فعل للمقاومة السياسية هو أن تبتسم وأنت على منصة الإعدام.
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *