شكري المبخوت: الرواية فن شعبي


شكري المبخوت كاتب تونسي ولد عام 1962، حاصل على دكتوراه الدولة في الآداب، وهو رئيس جامعة «منوبة»، وعضو هيئة تحرير مجلة «إبلا»، حصل على الجائزة العالمية للرواية العربية 2015 عن روايته «الطلياني»، من مؤلفاته «سيرة الغائب، و«سيرة الآتي» و«جمالية الألفة.. النص ومتقبّله في التراث النقدي» و«نظرية الإعمال اللغوية».

تدور حكاية «الطلياني» حول حياة الشاب عبدالناصر الذي يلقب بالطلياني نتيجة لملامح وجهه التي تشبه ملامح الإيطاليين، وتعود بنا الرواية إلى أيام الجامعة حيث ينخرط الطلياني في التيار اليساري وتبرز قدراته القيادية، ويتم اختياره لتمثيل الطلاب في الجامعة، ويرتبط في هذه الفترة بعلاقة حب مع إحدى مناضلات الحركة الأكثر حضوراً ونباهة في الساحة الطلابية «زينة» التي تدرس الآداب، لكنّ الطلياني بعد أن دخل إلى دهاليز حركته السياسية ورأى كيف تجري الأمور، وعاين وسائل العنف التي تستعملها، لم يرض عن ذلك، واكتشفت الحركة ميوله تلك فجردته من مسؤولياته وأصبح منبوذاً، وتخرج عبد الناصر في الجامعة وبقي عاطلاً عن العمل يعيش على مصروف زهيد يبعث به إليه أخوه المهاجر إلى سويسرا، وفي هذه الأثناء تخرجت زينة وعملت مدرسة للفلسفة، وتشهد حياة الطلياني تطوراً مهماً حين يدخل إلى إحدى صحف الدولة ويبدأ العمل فيها، في آخر أيام بورقيبة، ليصعد نجمه ويصبح مسؤولاً عن الملحق الثقافي فيها، مشبعاً بذلك ميوله الأدبية والكتابية، ولكنه يصدم بكم الرقابة والكبت المفروض على الصحفيين، وفي هذه الأثناء تضطرب علاقته بزينة الطامحة إلى متابعة دراساتها العليا في الخارج، والرافضة للزواج وإنجاب الأطفال، وينعكس كل ذلك على شخصيته فينتهي إلى حياة ضائعة.
«الخليج» التقت المبخوت أثناء زيارته مؤخراً للإمارات وحاورته حول روايته ورؤاه الأدبية.
} الطلياني» هي بمعنى ما رواية مثقفين، فلماذا العودة مجدداً إلى هذا النوع الروائي، بعد أن تجاوزته السرد العربي؟
-المثقف شخصية تصلح باستمرار للرواية، لأنه يجمع تناقضات عدة، يجمع بين التعامل العادي والتعامل الواعي، وهذا التعدد في جوانب الشخصية يجعله مرشحاً لأن يكون شخصية روائية، ولكن المهم أن يُنتاول المثقف روائياً في بعده الإنساني، وهذا البعد الإنساني هو الذي يسكب على الرواية الصبغة الحقيقية لها، وليس انطلاقها من فئة المثقفين، فبحكم هذا التنافر بين الوعي الفكري والانشداد إلى الشرط الإنساني اليومي، بما يتركه ذلك التنافر من تردد وتناقض يصبح المثقف شخصية مهمة للتناول الروائي، لكنّ بعض النقاد وصفوا «الطلياني» بأنها رواية مثقفين، نظرا إلى أن فيها معطيات ومعلومات أيديولوجية وفكرية وفلسفية، تجعلها تخاطب فئة المثقفين، وهذا ما لا يمكن أن أن أفعله كروائي، لأنني أعتبر أن الرواية فن شعبي يتوجه إلى الناس، إلى كل من يستطيع أن يقرأ، وكل من يريد أن يقتني كتاباً ويطالعه فهي تتوجه إليه.
} حصاد المثقف في الرواية كان ضئيلاً جداً، فبطلها (عبد الناصر) لم يخرج من صراعه المتعددِ الأوجهِ بشيء؟
-إذا أخذنا شخصية عبد الناصر في مسارها نلاحظ أنها شخصية متمردة، تطرح على محيطها الاجتماعي القريب، بدءاً من الأسرة فالأصدقاء في الجامعة وفي الصحافة، أسئلة محرجة تعيدهم إلى ذواتهم كي يتساءلوا عنها وعما حصلوه ووصلوا إليه، هذا التساؤل المستمر عند عبد الناصر بأقواله أحياناً، وسلوكه أحياناً أخرى، وعند بقية الأشخاص هو الحصيلة المهمة، وليست النتائج، لأن تغيير المجتمع لا يتم دائماً إلا ضمن الديناميكية، التي ترجع الناس إلى أنفسهم فيتساءلون عن مدى مطابقة ما يرغبون فيه مع ما يعيشونه، أما إذا قصدت أن نهاية عبد الناصر لا تخلو من خيبة، ففي هذا وجهان، وجه، أن الخيبة هي ما نراه في الواقع، ولا يمكن للرواية أن تكذب أو تتحدث عن نهايات سعيدة في عالم غير سعيد، الوجه الثاني أن إمكانات واحتمالات انقلاب الوضع تظل قائمة في الرواية لأنه لا شيء انتهى والمسار فيه عثرات وانحناءات وتعرجات كما هي عناوين الفصول، ولا توجد طريق ملكية للوصول إلى الحرية التي ينشدها عبد الناصر وغيره من الشخصيات.
} زينة هل هي وجه آخر لعبد الناصر أم أنها النقيض له؟
-الشخصيات تتشابه، وبعضها يضيء بعضاً، زينة ليست نقيضاً مطلقاً لعبد الناصر، ولكنها مرآة رآى فيها بعض حدوده، ووجوهاً خفية من شخصيته، وكشفت له أقنعة توهم لفترة من الزمن أنه تخلص منها، وفي الآن نفسه كان عبد الناصر أيضاً مرآة لزينة، لعبة المرايا هذه أعتقد أنها من أسرار النص التي يمكن أن ندخل إليه منها، فجميع الشخصيات حتى الشخصيات الثانوية، تجد نفسها ضمن هذه المرايا المتجاورة المتعاكسة لتشكف عيوبها وقدراتها، وتطرح أسئلتها على مجتمع يتوهم أنه مستقر مطمئن إلى تمثلاته عن نفسه. 
*الأب الذي بدأت الرواية بحدث موته، يبدو هو الأكثر حميمية في الرواية، هل يمكن فهم ذلك على أنه حنين من الكاتب إلى مجتمع يكاد يتلاشى، أو إلى أبوية من نوع ما في ظل تزعزع النماذج الراهنة؟
-الشخصيات الحميمية كثيرة، أبرزها الأب والأخ صلاح الدين وتوجد جنينة في سياقات أخرى، ليس في الأمر بحث عن مثل أو انشداد إلى فكرة قديمة، بقدر ما هي محاولة للبحث عن ضروب التواطؤ والتعاكس في الشخصيات، فالأب كان متواطئاً مع الابن لإحداث تغيير وتوازن في العلاقة مع الأم المتسلطة، والأخ كما ورد في الرواية هو عبد الناصر الآخر الذي غادر إلى الغرب، ولو بقي لكان مثل عبد الناصر، هذا ما قاله الأخ نفسه، لا أظن أن هناك مثالاً تريد الرواية أن تجعله ركناً مكيناً فيها، بقدر ما توجد هذه اللعبة في بناء الشخصيات على أساس التفاعل والتقابل بأشكال مختلفة سلباً وإيجاباً.
} هل كان ضرورياً أن تغمر الرواية بكل هذه الحوارات السياسية والفكرية بين زينة وعبد الناصر، هل هو ضروري؟
-هناك ثلاث نقاط في هذا الأمر، النقطة الأولى أن هذا الطغيان هو انطباعي لأن الرواية تقع في 340 صفحة، وإذا جمعنا هذه الحوارات كلها لن نحصل على أكثر من خمسِ أوستِّ صفحات، والنقطة الثانية، هي: هل كان من الممكن حذف تلك الحوارات لتخفيف النص من هذا الثقل الفكري؟ بالنسبة إلي أرى أنها كانت ضرورية لإبراز أمرين، أحدهما السياق الثقافي الأيديولوجي السياسي الذي تتحرك فيه الشخصيات، والخلفيات الأيديولوجية التي كانت تحركها، والأمر الآخر هو بيان هذا الانتقال لدى الشخصيات مما هو فكري وأيديولوجي إلى ما هو واقعي حميمي، وانهيار المثل الثقافية على صخرة الحياة اليومية، خصوصاً حين سكن عبد الناصر وزينة في منزل واحد، فأنّى لهذا التحول أن يبرز إن لم توجد مثل تلك الخلفية، ولنلاحظ أن النقاش في البداية كان متواصلاً بينهما، ثم في النهاية لم يكن هناك نقاش ولا حوار، بل صمت وقطيعة، النقطة الثالثة أن الرواية كجنس أدبي تحتمل كل ما نتصوره من أنماط القول، ولست أول من يكتب مثل هذه الأفكار أوالتحاليل أو التصورات الأيديولوجية والفكرية، كل الروايات التقليدية الكبرى هكذا ولكن يبدو أن ثقافة «الفاست فود» أصبحت ترغبنا عن مطالعة مثل هذه الأفكار، رغم أنها قليلة، وربما هذه القلة هي التي تجعلها بازرة.
} أين تضع الروائي الناقد فيك عندما تبدأ الكتابة الإبداعية؟
هو فِيَّ، ولما ذا لا أسأل أين أضع أفكاري الاجتماعية والأدبية والأيديولوجية والسياسية؟ أعتقد أن المعرفة النقدية الأدبية هي جزء من هذه الخبرة التي تُكتب بها الرواية، والبحث عن كاتب أمي ليست له أي فكرة عن النقد الأدبي وصناعة الرواية تحديداً عبثي، من جانب آخر، فإن الرواية جنس منفتح كثيراً، ويعسر وضع قواعد صارمة ونهائية له، وحتى إذا وجدت تلك القواعد فلا يعني وجودها أن يكون الملم بها قادراً على صناعة نص مشوق، يشد القارئ، ففعل الكتابة فيه حركة غريبة يعرفها الكتاب، تجمع بين نوع من العفوية التي من دونها لا تكون الرواية، كأن تطلع لك شخصية لم تحسب لها حساباً، أو أن يحملك منطق السرد إلى وجهة لم تخطط لها من قبل، أو أن تتغير ملامح الشخصية أثناء الكتابة، كل هذا يعود إلى هذه العفوية في الكتابة، واحترام الكاتب لمنطق ما يكتبه، منطق عالم التخييل الذي يصنعه، وفيها أيضاً نوع من التحكم لأنها ليست كتابة متروكة للصدفة، هذه الحركة بين العفوية والتحكم هي التي تصنع في ظني الرواية، ولا دخل للأكاديمي أو غيره إلا بمقدار، ثم إنني لا أفهم لماذا تطرح عندنا نحن العرب هذه المشكلة، كأن الأديب مازال عندنا لا يصنع الأدب، بمعنى (الصناعة) في القديم، بل هو يتلقى الإلهام من قوة غيبية خارجة، في حين أننا نعرف الآن أن تقنيات الكتابة أصبحت تدرس، ويدرب عليها الكتاب، المهم في نهاية الأمر هو المنتوج سواء أكان رواية أم شعراً أم مسرحاً.
_________
*الخليج

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *