فوزي كريم
بين قذَف الشابُ العراقي حذاءه على شخص الرئيس الأميركي بوش، وكان ضيفاً في بغداد، نامت الكرامةُ العربية قريرةَ العين ذلك اليوم، فقد كانت الإهانة للعدو أبلغ من أن توصف. ألمْ يُقذف بحذاء؟! ولكن المخيّب للظن أن الحذاءَ خارج العالم العربي والإسلامي لا يرمز لانحطاط ولا يشكل شتيمة. وهو كالكلب رائق للعين وعزيز على القلب. والمسؤول لديهم عادة ما يُرشق بالبيض والنفاية والأصباغ، أما الحذاء فيصلح لمعرض فني.
حين جئت لندن مطلع 1979 كان الحذاء مادةَ أول معرض فني أشاهده فيها. ولا أخفي عنكم دهشتي آنذاك، لا لأني كنت مع من يعتقد بحِطّة الحذاء، ولكن من أن يكون معيار جمال فني بالغ التنوع والغنى. وبعد قرابة ثلث قرن يعود الحذاء اليوم إلى الصدارة في معرض فني كبير، في متحف “فكتوريا وألبيرت”، تحت عنوان “أحذية: مسرّة وألم”. وقد وفّر المتحف عينات تتجاوز 250 زوجاً من الأحذية عبر التاريخ. ولم تُخف مرحلة من هذا التاريخ مسرتها وهوسها بهذه الصنعة التي تتمتع بالقيمة العملية والجمالية في آن.
حذاء المرأة يكاد يتفرد، مقارنة بحذاء الرجل، بسعة أفق التفنن الجمالي. حتى ليُغض الطرف عن الطواعية العملية، بحيث يبدو الحذاء في أحيان كثيرة لا يصلح للقدم الرقيقة. هناك رقة وبساطة، تتصاعد إلى أشكال بالغة التعقيد، لا في الجمال أو الأناقة، بل في إثارة الرغائب الحسية. في الأسطورة يبدأ المشاهد مع حذاء “سِندريللا”، وفي شهرة النجوم مع مارلين مونرو، والملكة فيكتوريا، وعدد من الممثلات والمغنيات المجهولات لدي، وراقصات الباليه.
على أني لم أُبطئ الخطو على عهدي مع معارض الفن التشكيلي، ولذا أسرعت الخطى عن غير دراية لأشاهد معرضاً تشكيلياً موسعاً إلى الجوار.
في “غاليري البورتريت الوطني” معرض *استعادي لفن أكثر حميمية وهو فن “البورتريت”، ولفنان أكثر إيحاء هو “جون سارجِنت” John Sargent (1856 ـــ 1925). وسارجِنت الأميركي كان لعائلة كثيرة التنقل في أوروبا. ولقد رعته أمه باتجاه الرسم الذي تُحسنه. تعلم *في إبطاليا، فرنسا وبريطانيا وأميركا الذي عاد إليها أخيراً. كان انطباعياً في لوحاته لمشاهد الطبيعة، لكنه توفّر على شخصية فنية متميزة حين اقترب من فن “البورتريت”. وسعة اهتمامه الثقافي قربه من أوساط الكتاب والموسيقيين، والوجوه التي رسمها للروائي “هنري جيمس”، و”روبرت لويس ستيفنسون”، والفنان “مونيه” والنحات “رودان”، والموسيقي الفرنسي “فوريه” أكثر من مألوفة لديّ. ولكن مشاهدتَها حية أطلعتني على عمق النبش الذي يطمع سارجنت في الذهاب إليه، لفهم عالم الإنسان الداخلي، في مرحلته الفيكتورية المضطربة بفعل الشكوك التي بعثتها هيمنة الاقتصاد الرأسمالي، ونظرية داروِن، وكشوفات علم النفس.
في اللوحتين الرائعتين اللتين رسمهما للروائي ستيفنسون: تبدو زوجته في الأولى مستريحة في ركن مُبعد، ترفل بالحرير، على أثر الغنى الذي تمتعت به العائلة بعد نجاح روايته “جزيرة الكنز”، في حين يبدو هو في وسط اللوحة شارد الذهن، ووراءه باب مُشرع على ممر كئيب، يكاد يعكس الجانب المعتم من مخيلته، وهو صاحب الرواية الشهيرة “د. جيكل والسيد هايد”، التي أصدرها فيما بعد.
حافظ “سارجِنت” في المرحلة الانطباعية، وفي مرحلة بيكاسو التكعيبي، على نزوعه الواقعي. الأمر الذي عرّضه لمواقف نقدية معادية. ولا شك أن ميله لرسم البورتريت، ومهارته فيه، قد أسهم في هذا التعريض. فالمرحلة فوّارة بتنوع الموضة المتسارعة، وفوارة بجاهزيتها للشجب والإدانة، لكل موهبة لا تسارع كما تسارع. ولكن تاريخ الذائقة الفنية كفيل بإعادة التوازن كل حين، فسرعان ما أرجع لسارجنت مكانته التي تليق به، منذ الخمسينيات والستينيات.
إنني أعشق فن البورتريت، وأعتقد أن إضعاف قيمته من قبل التيارات الفنية الطليعية عادة ما يُخفي ذعراً من قيم فنية عدة: منها ما يتعلق بالمهارة الفنية، ومنها ما يتعلق بالسعي إلى ما وراء تقنيات الشكل، ومحاولة فهم الجوهر الإنساني الكامن.
الجريدة الكويتية