واحد شاورما كبير


*شريف علي

خاص- ( ثقافات )

اقعد هنا يا علي لحد ما أروح أجيب لك سندوتش.
ماشي.
قالها الصغير بفرح وهو يجلس حيث أجلسه أبوه على المصطبة الرخامية لمطعم الشبراوي، وراح يجيل نظره في الشارع والمكان، المنطقة مزدحمة بشارع فيصل الرئيسي، وفي الشارع الجانبي الواسع، غير بعيد عن المطعم أرجوحة أخذت انتباه الولد، الحركة الدؤوبة لعمال المطعم وهم يعملون، يظهرون ويختفون بسرعة خلف الواجهة وأمام الشواية وحول الزبائن، بالطبع هناك الكثيرون بالداخل مختفون عن الأنظار. وهاهو الأب يتوجه إلى الطاولة التي يطل من ورائها الكاشير. نظر حوله، خمَّن أنه الرابع أو الخامس بين الزبائن. ركز بصره على قائمة الأصناف وراء الموظف باحثاً عن شاورما لحمة. تاه في الأصناف، تذكر أنهم يكتبونها تحت بند سندوتشات اللحوم، فانتقل ببصره إلى البند ثم هبط إلى السطر المطلوب. شاورما لحم. صغير 6ج، وسط 8ج، كبير 10ج. احتار لحظة ثم أخذ قراره. ونظر إلى الزبائن عن يمينه. لقد أصبح الثالث. أدار رأسه للولد الجالس على الرصيف، فوجده يتطلع إليه صامتاً فابتسم له. خيل إليه أنه أيضاً يحاول أن يبتسم، لكنه لاحظ أن الزبون المجاور يراقب حواره مع الولد بفضول وعلى وجهه ابتسامة، فشعر بالخجل والتفت إلى موظف الكاشير، فقدم له يده الممسكة بالعشرة جنيهات، ولا تزال على شفتيه نفس الابتسامة التي حملها للولد:
واحد شاورما كبير.. لحمة… كبير لو سمحت.
تناول الموظف الورقة، وبطريقة آلية ضرب الطلب على ماكينة الحساب واقتطع له الفاتورة، فتناولها واتجه بها إلى الشواية المنصوبة على الرصيف الفسيح، انتبه إلى عدم وجود الولد في نفس اللحظة التي سمع فيها صوته:
بابا.. هو هايحط فيها كاتشب؟ أنا عايز كاتشب!
أمسك بيد الولد وصحبه إلى الشواية..
حاضر.. هاحاطلك كاتشب..
أنا عايز كاتشب.
هو هيحط كاتشب..
الأخيرة كانت امرأة ومعها فتاة، حملا حقيبتين كبيرتين مكتظتين بالسندوتشات وتوجها إلى سيارة الأسرة حيث مكث الأب في انتظارهما أمام عجلة القيادة. قدم الفاتورة:
واحد كبير.
ولم يكن الرجل بحاجة إلى الكلام، فقد نظر في الورقة ودسها في سيخ حديدي لجمع الفواتير وبدأ إعداد السندوتش. نظر الأب على منضدة العمل.. وعاءان أحدهما للطحينة والآخر تقريباً للمايونيز. لا يوجد أي كاتشب أمامه.
فيه كاتشب؟!
لأ طحينة ومايونيز بس.
طيب ماتحطش خُضرة.. حط طحينة ومايونيز.
واستدار للطفل الذي كان يتفرج:
هيحط لك طحينة ومايونيز يا علي.. دا طعمه جميل قوي!
تأمل الطفل. والتفت الرجل إلى الطفل كذلك وابتسم، وزاد له حشوة الشاورما بقدر ملعقة إضافية، الولد لم يفهم، لكن الأب ابتسم وهو يتناول الحقيبة.
– شكراً.
فأومأ الرجل ثم عاد وجهه إلى البلادة وهو يتناول طلباً جديداً من زبون آخر. 
اقعد هنا يا علي.. 
على نفس المصطبة أجلسه ولكن هذه المرة في مقابلة الشارع، ليتفرج على الشارع وهما يأكلان، لكنه لاحظ أن حركة الهواء تدفع بصهد الشواية إلى ظهريهما..
لأ تعالى.. هنا حر.. تعالى نقعد هنا.. 
وجلسا في المكان في طرف المقعد الرخامي المشرف على ناصية الشارع..
هات.
استنى بس. هديلك.. هطلعلك السندوتش علشان مايقعش منك!
فتَح الشنطة وأخرج طرف السندوتش من لفافته وهمَّ بقطعها. هكذا قسمها في تقديره. ثلث لنفسه والثلثان للولد. هو نفسه لم يحدث قط أن أكل أكثر من سندوتش كبير في أشد أوقاته جوعاً. صحيح أن بإمكانه أن يأكل أكثر لكن لنقل إن هذا كان الأنسب دائماً لجيبه ولإزالة إحساسه بالجوع معاً، لكنه يعرف أنه لو كان لديه مال أكثر لأكل اثنين على الأقل، بلا شك. لذلك فهو نحيف. وابنه أيضاً نحيف مثله، لكن الآن حدث ما لم يتوقعه:
هات!
مع الكلمة امتدت اليدان الصغيرتان إلى السندوتش، فتراجعت يد الأب إلى أسفل. للحظة كانت الأيدي الأربعة ممسكة بالسندوتش، ونظر في عيني ابنه. لم يكن ينظر إليه بل إلى السندوتش. رأى في عيني الولد لهفة وشهية لم يعهدهما فيه من قبل، أو ربما اكتشفهما لأول مرة. في البيت شهيته سيئة ويشتكي من الملل من نوعية الطعام. ابتسم، وسلمه إياه. 
امسك السندوتش كويس يا علي.. 
أحكم اللفافة الورقية على السندوتش للولد.
خليك قاعد هنا.. هاروح أعمل مكالمة وآجي.. أوعى تقوم من مكانك لا حد يخطفك!
فأومأ له الطفل بوجه سعيد ريَّان وفم مملوء بالطعام، فسعد الأب أكثر واتجه إلى المحل المجاور للمطعم. 
مكالمة موبايل لو سمحت.. 
تناول الموبايل من الشاب وضرب رقماً وتحدث في التليفون. بدأ إيقاع الحديث سريعاً كي لا يتجاوز سعر دقيقة واحدة بخمسين قرشاً..
آلو..
أيوا يا دينا.. 
أيوا يا أحمد.. 
إحنا في الشبراوي فيصل. جيبت لعلي سندوتش شاورمة.. كبير..
والله؟!
آه.. بياكله آهه.. وفرحان قوي..
ابتسم للولد ولوح له بيده فلوح له. سقطت قطعة شاورما على الأرض، فأشار إلى الولد كي لا يأخذها من التراب: قاعد قدامي أهه..
طيب الفلوس قضت؟
وهو يشير له ليجلس مكانه:
آه.. السندوتش بعشرة.
وهتصلح الموبايل إزاي؟
مش مشكلة، لما أقبض بقى.
طيب معاك فلوس ترجعوا؟
آه.. اتنين جنيه.. انت معاكِ كم؟
يا دوب فكة.. يقضوا أودِّيه الحضانة يومين كمان…
طيب ربنا يسهل؟ 
على مهلكوا.
طيب سلام.
ناول الموبايل للشاب:
كم؟
نص جنيه.
أخرج العملتين. اكتشف أن إحداها جنيهاً والأخرى نصف جنيه، فأعطاه النصف، ووضع الجنيه الأخير في جيبه، ونظر حوله مرة أخرى..
عندما عاد إلى ابنه كان يوشك على إنهاء السندوتش. اندهش الأب مرة ثانية. 
مبسوط يا علي؟!
فأومأ الولد وهو يمضغ ثم قال: 
بابا.. عايز اركب مرجيحة.. المرجيحة اللي هناك دي..
نظر الأب إلى الأرجوحة، المركب الأولى خالية والثانية تتأرجح فيها طفلة رثة الثياب، ثم نظر إلى الولد. 
حاضر!
عاد الولد ليقول:
بابا انت تعرف تبني مرجيحة زي دي؟
فقهقه الأب حتى مال برأسه إلى الوراء:
لأ يا علي أنا مهندس بيوت ومباني.
زي دي؟
التفت الأب إلى مجموعة العمائر على ناصية الشارع، ثم عاد يضحك بفتور:
لا، أنا بابني أبراج.. ومباني كبيرة بملايين..
المراجيح يبنيها مهندس مراجيح؟
سكت الأب لحظة ثم قال:
آه.. 
ثم مال على الولد:
حاسب يا علي وقعت حتة.. وريني..
لم يبقَ من السندوتش غير طرفه المدبب الأخير، تطل منه شريحتان من البصل والطماطم، ونتفة لحم صغيرة بحجم حبة حمص دقيقة مختبئة وسطها، فتشجع أن يسأل ابنه. 
خلاص دي مافيهاش لحمة بقى.. آكلها؟!
فأومأ له موافقاً، وبينما يرفع الأب اللقمة إلى فمه أوقفه الولد هاتفاً:
استني..
إيه؟
أشار إلى اللقمة:
فيه حتة لحمة!
فقربها منه، دس الصغير إصبعيه في الطحينة وأخرج نتفة اللحم ومضغها ونظر إلى الأرجوحة المنصوبة في أول الشارع المجاور..
وقال الأب:
آكلها أنا بقى دي!
وجذبه من يده إلى الأرجوحة.
تعالى!
كان مديرها شاباً معروقاً يرتدي الجينز وشعره مفلفل بالجل وملامحه سمراء ومطحونة. “ياللا يا علي!”. وضع الجنيه في يد الشاب وعاونه على حمل الولد إلى الأرجوحة، ترك الشاب يدفع الولد بهدوء وألقى هو بنظرة بعيدة على الطريق الطويل الذي عليه أن يقطعه حاملاً ابنه على كتفيه، ثم سمع الولد يضحك. لاحظ أنها المرة الأولى التي ضحك فيها منذ بدء المشوار، دفعها أكثر. 
مبسوط يا علي؟ 
آه.. 
عوِّم جامد!
الأرجوحتان ترتفعان، أرجوحة فيها الولد والأخرى فيها البنت. البنت تبدو أكبر قليلاً من ابنه، والاثنان يضحكان ملء قلبيهما بضحكات بريئة رائقة. ضحك الأب كذلك. كيف واتته الجرأة أن يدفع ابنه بالأرجوحة إلى هذا الارتفاع؟!
حاسب يا أستاذ.. كدا خطر!
تجاهل الرجل وسأل ابنه الذي يقهقه بينما تتجاوز المركب حد الأفق!
مبسوط يا علي؟
آااه!
خايف؟!
مش خايف!
مش خايف؟!
صرخ بفرح جاوز عنان السماء..
مش خايييييييف!
خلقة ربنا
النوم طار من عينيّ الأستاذ هاشم عبد المجيد رغم أن كل شيء مر اليوم بسلام. جاءت السفيرة الأمريكية إلى المدرسة وغادرت راضية والحراسات الأمريكية المشددة أحاطت المنطقة، والتمعت فلاشات الصحافة، يوم ناجح سبقه تجهيز ممتاز وجهد كبير منذ أن استدعاه حضرة الناظر ليبلغه بالخبر. اعتراه الهلع بمجرد أن رأى الأستاذ محمد عبد العال، حضرة الناظر، مذعوراً بهذا الشكل. أفهمه أن السيدة السفيرة قادمة لزيارة المدرسة غداً ضمن عددٍ من المدارس لتتفقد بنفسها سبل إنفاق المعونة الأمريكية في خطة تطوير المدارس، وأن الوزارة على حد قوله “مقلوبة”، وأن مدير المنطقة كان معه على التليفون والوزير نفسه يتابع الأمر! وبدأ يفهمه تفاصيل الخطة. كانت الحلول جاهزة لكن المشكلة العويصة تركزت في التلاميذ أنفسهم:
مالهم..؟
العيال شكلهم وحش قوي يا أستاذ هاشم.. فضيحة بصراحة قدام الأمريكان!
خلاص.. نقولُّهم يجوا بكرة بهدوم جديدة!
فأشاح أستاذ عبد العال بيأس:
يجيبوها منين؟!
أفهمه المطلوب:
مافيش قدامنا غير أننا نظبَّط المدرسة لغاية الصبح.. والصبح نجيب عيال مدرسة جلوري لغات هنا ونودي دول هناك!
وبدأ العمل على قدم وساق! أبلغنا خبراً كاذباً للعيال في الفصول بحضور حفلة في مدرسة جلوري غداً، ففرحوا أولاً ثم اشتعلت الثرثرة بعد ذلك مع تسرب السبب الحقيقي! أما أستاذ عبد العال فقد ذهب إلى منزله وعاد بعد انتهاء اليوم الدراسي بشنطة بها شبشب وترنج أزرق قديم وغطاء نوم، وظل طول اليوم يصلي في المكتب ويقرأ القرآن، ويتابع العمل من نافذة مكتبه، وفي أوقات الملل ينزل ليتفقد العمل بنفسه ليبدي بعض الملاحظات.
انت عندك إسهال يا حضرة الناظر؟
هكذا سأله عم سعد الفراش ببراءة عندما لاحظ تردده المستمر على دورة المياه، فأجابه أستاذ عبد العال وهو يحاول أن يبدو عادياً رغم الألم:
آه شوية كدا.. 
طيب أجيب لك قهوة بليمون!
أما الأستاذ هاشم فكان المدير التنفيذي الحقيقي لسير العمل. تم تنظيف الأرض وترميم فتحة هروب التلاميذ من السور، وإصلاح دورات المياه وتركيب مراوح وحمامات جديدة، وطلاء الدِّكك والجدران وتركيب وسائل إيضاح حديثة، ونقل أجهزة كمبيوتر وأصص زرع داخل الفصول، حتى الحوش المليء بالمرتفعات والحفر والحشائش تمت تسويته وتنظيفه وغرس مرميان كرة قدم مزودان بشِبَاك جديدة في طرفي الحوش الذي أصبح ملعباً الآن لأول مرة من ثلاثين عاماً، وقبيل الثالثة صباحاً تهاوى أستاذ عبد العال من التَّعب، وحتى هذا لم يتركه أستاذ هاشم إلا بعد أن اطمأن عليه بنفسه وهو يضع رأسه على مصلاة مطبقة على الأرض ويشير بيده في ألفة:
خلاص روح انت يا هاشم وابقى اطفي النور وراك..
بينما استمر هاشم مع العمال حتى اللحظات الأخيرة، ومع شروق الشمس كان أستاذ هاشم آخر من غادر المدرسة وأغلق بوابتها بنفسه بالجنزير الحديدي مع عم سعد، وفي طريق العودة إلى المنزل شعر بالرضا والارتياح الشديدين بما صنع… إذن فأين الخطأ؟ شيء ما يجثم على روح الأستاذ هاشم ويحاصره بسحابة قاتمة ومقبضة من الكآبة، ومطارق الصداع الجبارة تدق في رأسه، وقد بدت بيوت داير الناحية النائمة تحت عينيه أشبه بمنطقة مقابر مهجورة، وهو يقف في بلكونتهم يدخن كالمارد. هكذا فكر أستاذ هاشم عندما انتبه من خياله لصوت نكش وخطوات أمه وهي تستيقظ لصلاة الفجر.
يا ابني ما تنام بقى.. انت مش وراك مدرسة الصبح؟! 
حاضر هنام أهو..
سمع أستاذ هاشم بعد ذلك الحنفية وهي تفتح والماء وهو ينساب، وصوت حوقلة أمه في الصلاة وتزييق باب غرفتها وهو يفتح، وشقشق النور، ولم يسعده أن تذكر سوسن خطيبته، ولا المكافأة التي وعده بها أستاذ عبد العال وكلمها عنها في التليفون. شيء ما ساخن ظل ينخر في نفسه بإزميل ويشعره بالاكتئاب. ربما منظر العيال وهو يقودهم إلى مدرسة جلوري الخالية من أهلها. ربما نظرات الانبهار والحرمان والفرحة الهستيرية التي تفجرت في عيونهم وهم يحملقون في الفناء الفسيح النظيف، وحمام السباحة، وحظيرة الخيل، التي جعلته يتذكر فوراً كلام حضرة الناظر: “خد بالك يا أستاذ هاشم احبس العيال في الفصول واوعى يكسروا أي حاجة!”. كيف واتته الجرأة أن يضرب بالتعليمات عرض الحائط ويهتف بهم مشيراً للفناء الفسيح: 
يلا يا ولاد.. العبوا واتبسطوا!
فاندفعوا كجيش جميل من الصغار..
هيييييه!
هل صعُب عليه منظر العيال وهم يتقاتلون على الأراجيح، ويجلسون بسعادة على البلاط المحيط بالملعب ويتمرغون على النجيل الأخضر وهم يضحكون؟ ربما! حادثة واحدة صغيرة يتوقف أستاذ هاشم عندها بالذات، ويشعر أنها السبب الحقيقي لكل الحزن الذي يحسه الآن! نعم بالضبط. من غيرها؟ البنت عطا السمراء المقروضة، وهي تجري نحوه وتشده من سرواله ليلتفت لها في أثناء انشغاله بحشد العيال خارج المدرسة. 
يا أستاذ.. يا أستاذ!
عايزة إيه؟
فاجأته رغم شعرها المنكوش وسنتها المخلوعة ومريلتها المتهرئة بأنها تعرف كل شيء.
انتوا بتودونا المدرسة الثانية علشان شكلنا وحش، صح؟ بس كدا حرام لأن دي خلقة ربنا!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *