المفعول السّحري ” للإنصات والإخلاص”



* مهند النابلسي

خاص- ( ثقافات )

يعاني الكثير من الناس من سوء التفاهم الناتج عن ضعف الإنصات ، وفي الإدارة يلعب عنصر الإنصات دورا بالغ الأهمية …وعلى المدير الناجح أن يبذل جهدا لتحسين مستوى إنصاته لمستخدميه ، وبالتالي تقبل وجهات نظرهم إذا كانت عملية ومنطقية. 
لقد تبين عمليا أن العمال والمستخدمين العاملين تحت إمرة مدير يحسن الإنصات، ينجزون العمل المطلوب بصورة منافسة عكس هؤلاء الذين يعملون تحت إشراف مدير لا ينصت؛ فالعمال الذين يعلمون بأن مديرهم ينصت لهم يفكرون بطريقة إبداعية ناقدة ، كما يعطيهم ذلك شعورا حيويا بالثقة، ويحفزهم لكي بستنبطوا أفكارا جديدة تساهم في تحسين العمل .
يعتبر الإنصات من فنون الاتصالات الأساسية الرفيعة، وله مفعول سحري في مجال تطوير القدرات البشرية وتعميقها ، وعند افتقاده يسود الملل والإحباط وينخفض مستوى الثقة بالنفس ، فكلما شعر المرء بتجاهل أرائه كلما قلت رغبته بعرضها ، كما يقل إخلاصه وتفانيه ، وقد يتوقف عن التفكير النقدي البناء ، وتقفر مخيلته ، وقد يتبع ذلك تراجع واضح في إمكانات التطوير المهني والشخصي.
ولا بد أن الإنصات سيصبح تحديا كبيرا لدى المدير الذي يشعر أحيانا بضحالة الأراء المقدمة، إلا أنه من المهم أن ينصت، فالإنصات يشعر المستخدمين بأنهم يؤخذون على مأخذ الجد من قبل الإدارة، وهو كفيل بأن يخلق مع الزمن نوعا من “الحكمة الجماعية ” التي تتكفل بتجنب المزالق والمطبات الخطرة . 
وحتى يشعر الجميع بالمساهمة في اتخاذ القرار الصائب ، يفضل تجنب الأوامر المباشرة من نمط : “افعل ذلك !” ، وبدلا منها يمكن أن تصاغ هذه العبارة كما يلي ” نشعر بأن الأفضل أن نفعل ذلك ، ما رأيك ؟!” . لقد ثبت بأن الناس يقدمون أقصى طاقاتهم ويستمتعون بإنجاز الأعمال عندما يشعرون بحرية اتخاذ القرار والتنفيذ والمسؤولية ، لذا فمن الضروري بناء أجواء احترام للآراء المختلفة التي تخلق وتثير الإبداع والمخيلة.
الإنصات الجيد عنصر أساسي من عناصر الديموقراطية في الدول المتقدمة ، كما أنه عنصر هام جدا في كافة مناحي الإدارة الحديثة ، ويتطلب الهدوء والتحلي بالصبر، كما أنه يتطلب التخلي عن الغرور والأنانية واحتكار الصواب، وقد ثبت أن الإنصات أصعب من الحديث لأنه يتطلب التركيز والتفكير والتحليل ، ويعتبر وسيلة تلقائبة للتعلم وتلقي الأفكار والاقتراحات بطريقة تفاعلية-بناءة .
______
اكتشاف تيمة الاخلاص في الفيلم الفنلندي : ” أضواء في الغسق ” !
أتحفنا نادي شومان السينمائي كعادته بعرض الفيلم الرائع “أجواء في الغسق” (الذي ترشح للسعفة الذهبية في مهرجان كان / 2006) للمخرج الفنلندي “أكي كيروسماكي “، حيث يراهن رجل الأعمال الشرير على سذاجة وبراءة الحارس الليلي المسكين “كويستينين” ، وانجذابه العاطفي لشقراء ماكرة لكي ينفذ جريمة سرقة كبيرة لمحل مجوهرات ، فعندما تسأله الفتاة ( المأجورة ) فيما إذا كانت ستنجو من تهمة المشاركة بالسرقة ، يجيبها بثقة لافتة :” تكمن عبقريتي بمعرفتي لشخصية الحارس المخلصة والرومانسية ، لذا فهو لن يشي بك أبدا وسيتحمل كامل المسؤولية.
وهذه النقطة تحديدا ترسم سينايو الحبكة السينمائية ، تغافل عنها معظم نقاد الفيلم ، وهي باعتقادي النقطة المحورية في هذا الشريط السينمائي المميز ، لأن مسار الأحداث كله كان سيأخذ منحى آخر لو قام الحارس الليلي بالوشاية وقول الحقيقة ( كما يتوقع المشاهد ) ، حتى أنه لم يخبر الشرطة عندما شاهدها (من خلال المرآة )وهي تدس المفاتيح وعينة من المجوهرات تحت الوسادة في أريكة منزله ، وذلك إمعانا في توجيه تهمة السرقة له ! في الخلاصة فالتركيز والإنصات يقودنا هنا لاكتشاف ثيمة الفيلم الحقيقية ، التي تركز على عنصر “الإخلاص” ، فـ”أيلا” البائعة المتجولة مخلصة في حبها الأحادي لكويستينين ، وهذا الأخير بدوره مخلص في حبه الآحادي أيضا للماكرة الشقراء ميرجا، وهو كذلك والفتى الأفريقي البائس مخلصان في تعاطفهما مع الكلب المشرد ( مغزى وجود الكلب كحيوان معروف بإخلاصه الشديد لصاحبه ! ) ، وقد لاقى كويستينين الضرب والسجن لسنتين إخلاصا لحبه وسمو أخلاقه.
لقد برع بالحق كيروسماكي بكتابة وإخراج وتصوير هذا الشريط المميز ، وكاد أن يتماهى مع عبقرية المخرج البريطاني الشهير الراحل ألفريد هيتشكوك ، الذي برع بهذا النوع من السرد : عندما يدان البريء المخلص وينجو الفاعل ، بل تجاوزه برسمه لأجواء الوحدة والعزلة والتهميش والإقصاء التي عانى منها الحارس الليلي ، ومع ذلك فقد شدنا بالتصوير الأخاذ والموسيقى والأغاني الرومانسية الحزينة لكي ندخل في حياته ونتعاطف مع رغباته وكفاحه وحبه للحياة بالرغم من معاكسة القدر له وسوء طالعه.
“الإخلاص والإنصات” في السياسة 
هكذا نعود لموضوع الإنصات الملازم دوما للتركيز ، فهو الذي يقودنا بالتأكيد لفهم خفايا الأمور في كافة مناحي حياتنا ، ولقد صدق المثل العامي عندما وصف النقاش العاصف الحاد ( كما نلاحظ في برنامج الاتجاه المعاكس بمحطة الجزيرة ) بـ”حوار الطرشان” ، حيث لا مجال لأن ينصت طرف لما يقوله الطرف الآخر ، وإنما استعراض أحادي عصبي لوجهات النظر مدعوما بأدلة محضرة مسبقا ، ولا أرى حقيقة ما المغزى الواقعي من برنامج كهذا ، سوى إثارة الهيجان والتعصب ، وربما بغرض توجيه المشاهدين خفية لتقبل وتبني وجهة نظر محددة بغض النظر عن صحتها.
يستخدم في التعبير (الإنجليزي –الأمريكي) اصطلاح بدلالة لافتة وهو (Bottom-Line ) ويعني التقاط ” المغزى الأساسي” من أي طرح ، ويتطلب هذا تركيزا كبيرا وإنصاتا لاستخراج المغزى ، وأظن أن معظم النخب العربية لا تميل كثيرا للتركيز على هذا المفهوم ، من هنا نلاحظ أن معظم حواراتنا ومناظراتنا “طافحة ” بالاحتقان والتشنج وأحادية الطرح مثل ” حوار الطرشان “، كما أنها تنسجم لحد ما مع الثقافة الدارجة التي تحتكر الصواب وتحتقر الرأي الآخر.
وما أحوجنا في أجواء ما يسمى “الربيع العربي” الصاخبة تعلم كيفية تطبيق ما أسميه اصطلاحا ” متلازمة الإخلاص والإنصات ” ، فالإخلاص يقودنا للصدق والالتزام والنزاهة وتكريس الطاقات والجهود لبناء نظم الحكم الجديدة بديلا عن الدكتاتورية والفساد والمحسوبية ، كما أن الإنصات هو الفن الرفيع الذي سيخلصنا من الفوضى والتخبط والعشوائية ، حيث يسمح لكافة الأطراف المعنية مع اختلاف توجهاتها ، لسماع كافة وجهات النظر بهدوء وروية وتأمل ، ربما للعمل معا للخروج بحلول توافقية-منطقية –عملية ترضي جميع الأطراف ، وتعطي الفرصة للحاق بركب التطور والحضارة الإنسانية .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *