التكنولوجيا والفنانون: متى يكون استخدام التكنولوجيا صائباً


زهرة مروة

هل يلتقي عالمان: عالم يحكمه الاتقان والدقة وآخر يخضع لقوانين الصدفة والنزوات والمشاعر؟ هل يلتقي العلم والتكنولوجيا بالفن؟ أو بالأحرى هل التطور التكنولوجي ساعد الفنانين والمبدعين في أعمالهم، وسهل عليهم مسيرتهم أم أنهم تجنبوه وبقي فنهم على هامشه؟. ذهبنا الى عدد من الشعراء والفنانين التشكيليين والموسيقيين وطرحنا عليهم هذا السؤال.

الشعراء بخلاف توقعاتنا بدوا متقبلين للتكنولوجيا ومناصرين لها وهي ترفد بعضهم شعريا، فالشاعر المدرس حمزة عبودي يطرح أسئلة عن مخاطر التكنولوجيا على حياتنا وثقافتنا وتفكيرنا التي كانت سائدة قبل الانجازات التي تحققت ليس في أيامنا فقط، ولكن منذ عصر النهضة، بل منذ اكتشاف النار والمعادن والعجلة والرغيف في العصور القديمة.
«لا أستطيع اذن أن أقول أو أن أرى كما رأى عدد من الشعراء الرومنسيين وبال هذه الانجازات (ومخاطرها) (فقط) في علاقاتنا الانسانية، ولكننا لا نستطيع أن ننكر في الوقت نفسه أن ثمة خللاً فاضحاً ومثيراً للقلق بل إنه مهدد لكياننا البشري بين تطور التكنولوجيا وتطور القيم والعلاقات الانسانية. والا كيف نفهم ما يحدث من الحروب والصراعات السياسية فحسب، ولكن في مظاهر الاجتياحات الثقافية والقيمية والوجودية لحدود الجماعات والأفراد في عصر العولمة، كما يقول روجيه دو بريد في كتابه (مديح الحدود).»
ثم يضيف عبود أنه لا يعرف مدى تأثير التكنولوجيا على شعره أو على مخيلته كشاعر. وأنه حين يعود احيانا الى بعض قصائده يرى أن الكثير من الصور والمشاهد كما كتبها هي أقرب الى المشاهد السينمائية أو الى مشهد مسرحي مع مؤثراته الضوئية والهندسية، او حتى الى صورة تلفزيونية.» أستطيع أن أرى ذلك وقد أشار اليه أحد الأصدقاء في تناول مجموعتي الأولى، ولكنني لا أعرف (مثلا) مدى تأثير تكنولوجيا الاتصالات والمعلوماتية أو سواها في اعمالي. في هذه التكنولوجيا ما يسبق مخيلتنا أحيانا، وان كنت (ولا زلت أعتقد) أن لا شيء يفوق مخيلة الشاعر في استشراف تأثيرها وأبعادها.»
الشاعر والأستاذ الجامعي محمد ناصر الدين يقول إن علاقته بالتكنولوجيا هي علاقة يومية، بحكم تدريسه في كلية العلوم حاليا، وفي قسم الهندسة بالجامعة الاميركية سابقا، ومشاركته في تطوير جهاز طبي لتشخيص ترقق العظام اثناء تحضيره للدكتوراه في فرنسا، اضافة الى احتكاكه بوسائل التواصل يوميا. «نحن في قلب التكنولوجيا الرقمية وهذه نتيجة طبيعية للعولمة، بحيث غزت التكنولوجيا الاميركية جدران اكثر المعابد البوذية في التيبت بشريحة usb او بقرص مدمج. السؤال الاكثر الحاحا بالنسبة الي هو أنسنة هذه التكنولوجيا، ووضعها في سياق اسمى من كون الانسان مستهلكا لا اكثر، والتزامها بأخلاقيات معينة او اتيكا تضمن لمستخدميها الحد الادنى من السلامة، والخصوصية، واحترام الآخرين والبيئة.»
وبالنسبة لتأثير التكنولوجيا على شعره يقول ناصر الدين إنه بصورة شخصية، لم تؤثر التكنولوجيا سلبا في خياله البتة، ولا نمطه بصورة ميكانيكية. بل بالعكس لقد كانت الفيزياء والهندسة مدخلا لي الى الشعر والكتابة بالنسبة له، بجمع ومقابلة عالمين متناقضين ظاهريا: عالم يحكمه الاتقان والدقة وآخر يستفيد من الهوامش والصدفة والخطأ، ولكنهما بالنهاية يحفزان على طرح الاسئلة الصعبة عن الكون والانسان والحياة. «لقد تناولتُ موضوع التكنولوجيا في اول قصيدة في ذاكرة القرصان، في سيناريو متخيل عن رجال آليين، يحكمون الارض في المستقبل، بعد ان تتفوق الآلة على الانسان، لكنهم أعجز من ان يصفوا وردة كما يفعل بودلير، او ان يتكلموا عن الحب كما فعل شعراء العرب الهائمين في الصحراء. حضرت شخصيات علمية اخرى كمرجعيات في دواويني الثلاثة، مثل نيوتن، ارخميدس، اينشتاين وغيرهم، بتعاملهم مع قضايا كالجاذبية، والضوء، والضغط والوزن وهي عناصر شعرية بامتياز.» ثم يختم الشاعر الشاب قائلا إنه في بعض الاوقات يرغب بعزلة صغيرة، في قريته سجد بين اشجار السنديان والحجارة، عزلة من التكنولوجيا وعالمها وتبعاتها، وتمتلكه الدهشة حين يرى ابنه الصغير يحمل جهاز الآيباد معه الى تحت السنديانة.
التصوير الفوتوغرافي
أما بالنسبة للفنانين التشكيليين، فمنهم من يرفض التكنولوجيا رفضا باتا في فنه، لكنه يواكبها ويستخدمها في حياته اليومية، ومنهم من يسخّر تطور العلم لخدمة لوحاته ولتطويره فنيا، لكن يبقى مصدر وحيه الأهم هو إلهامه وعاطفته، أما التكنولوجيا عنده فتأتي في المرتبة الثانية.
الفنان التشكيلي حسن جوني مثلا يقول إن التكنولوجيا لا تعني له كفنان تشكيلي، وهو يفضل استخدام وسائل التواصل المباشرة كالقلم واللون كونها تجعله أكثر حميمية بما يفكر ويتخيل وينفذ. وبنظر جوني ان التكنولوجيا تبعد الفنان عن فنه وتجعله مهتما بمقاييس رقمية، بالاضافة الى أنها تدخله في حسابات لم يعترف بها من الناحية الوجدانية بل يعتبرها من خلاصات العقل. «اني أرفض حتى الأكريليك في لوحاتي. وان التعامل مع الألوان الزيتية برأيي يفضي الى هذا البريق الدائم الذي يشع منذ خروجه من الأنبوب حتى ينفلش على اللوحة. لا علاقة لي نهائيا بالتكنولوجيا. حتى هاتفي هو بسيط جدا وغير موصول بالانترنيت. أستعمل التكنولوجيا أحيانا في حياتي اليومية وأحيا بنعمتها ولكن أبقيها بعيدة عن لوحاتي.»
الفنان التشكيلي محمد الرواس بخلاف جوني، هو فنان كمعظم الفنانين المعاصرين لعبت التكنولوجيا دوراً مهما في مسيرته الفنية. وبرأي الرواس ان الفنان ابن بيئته وزمانه والشاهد الحضاري عليهما. لذلك نرى أنه كان دوماً يواكب ويعكس خصائص ومكونات زمنه ليس فقط من الناحية الثقافية ولكن أيضاً من خلال التقنيات التي يستعملها. واذا استعرضنا وبسرعة تاريخ تطور الفن مع تطور التكنولوجيا لوجدنا أن فنان ما قبل التاريخ حفر رسومات على جدران المغاور مستعملاً أدوات حجرية حادة. ومع اكتشاف الألوان المستخرجة من الطبيعة تطور شكل الابداع الفني ثم تألق مع اختراع الورق وتقنيات الطباعة الاولى. لكن الحدث الأهم في تاريخ العلاقة بين الفن والتكنولوجيا كامن في اختراع التصويرالفوتوغرافي حوالي العام 1850… كما أن الفنانين وظفوا منجزات الثورة الصناعية والتطور التكنولوجي فاستعملوا الأدوات الميكانيكية والكهربائية في إنتاج اعمالهم الفنية، كمثال الفنانين ناعوم غابو ولازلو موهولي ناجي…
الكاميرا الرقمية
أما عن علاقة أعمال الرواس الفنية بالتكنولوجيا فيخبرنا أنه قد استخدم الصورة الفوتوغرافية في أواخر السبعينيات. واستخدم في الثمانينيات معظم أنواع الطباعة الفنية والصناعية من حفر على المعادن وطباعة ليتوغرافية واوفست وطباعة حريرية. ثم استعمل الادوات الصناعية الكهربائية لقص الخشب والمعدن، خاصة القصّ بواسطة الليزر، في أعماله التي تضمنت اضافة تكوينات مجسمة الى سطح اللوحة الملون وذلك منذ العام 1987 حتى 2012.اما كاميرا الفيديو الرقمية فقد استعملها لتصوير فيلم ظهر في عمله الانشائي «إجلس من فضلك» في العام 2007. كما كانت له تجارب مع الطابعة الثلاثية الأبعاد في تنفيذ بعض من أعماله النحتية خلال العام 2013. «يبقى أن أختم وأشير الى أن التكنولوجيا وحدها لا تصنع فناً، وإن بدت تفعله افتراضياً على يد بعض الفنانين الذين انزلقوا في استعمال التقنيات الحديثة لسهولتها وإغراءاتها وركوباً لموجة الموضة السائدة.
ان استعمال التكنولوجيا الصائب من قبل الفنان يتأتى عندما يلجأ اليها الأخير لإضافة بعدٍ جديدٍ لعمله الذي هو قائم أصلاً على مضمون فكري وعاطفي متين ومبتكر.»
اذن، ان التكنولوجيا هي سيف ذو حدين. فمن الممكن أن تسهل العمل الفني، اذا عرف الفنان استخدامها كعامل مؤازر فقط، دون أن تحل مكان الوحي. في المقابل، المبالغة في استخدامها أو الاتكال عليها قد يضر بالعمل الفني.
وهذا ما يوافق عليه الموسيقي شربل روحانا الذي يقول إن «وجهة استخدام التكنولوجيا بنظري هي العامل الأهم، وأنا شخــصيا ألجأ الى برنامج «تنويط» على الكومبيــوتر يسهل علي الكتابة الموسيقية فقط، لكنه لا يعطــيني أفكارا أو يكتبها عــني، وهذا البرنــامج يمتلك سرعة هائلة في التنفيذ وفي طــباعة الموسيقى أو اجراء تغيير عليها أو تصليحها. وبالنسبة لتسجيل الموسيقى، يقول روحــانا انه يترك هذه المهمة الى مهندسي الصوت، وهم يستعملون تقنية التسجيل الجديدة ويؤيد الموسيقي شربل روحانا لجــوءهم الى التجديد.
السفير

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *