*أدونيس
1 ـ
طالَت الحكاية.
يجب أن نعتذر،
للكلمات التي اختنقَت على الطّريق،
للأيّام التي صارت جثثاً،
لثوب الزّمن الذي انفتق من الخاصرة،
للكهرباء التي تحوّلت إلى سبائك من الظّلمات
للنيلون الذي انقلب إلى حريرٍ،
للرؤوس البلاستيكية التي ترسم الحدود بين الشرق
والغرب،
وتخطّط لمستقبل العالم،
يجب أن نعتذر، أن نعتذر.
ـ 2 ـ
في كلّ زاويةٍ من إصطبل التاريخ،
دمٌ، ومعجزةٌ، وراوية.
دمٌ للذّهب،
معجزةٌ لنار القشّ،
وراويةٌ لجيش البلاطات.
الدّمُ يجرف الفضاء
والمعجزة تُشعل الحرائق،
والرّاوية يبيع لسانه.
ـ 3 ـ
قَتْلى، فرشت السّماءُ ثيابها أسِرَّةً لهم.
نجمةٌ تقلّم الأظافر،
نجمةٌ تحملُ سائلاً غامضاً،
نجمةٌ لها شكلُ القمقم.
ـ 4 ـ
إنّه النّوم، هذه المرّة،
يعيب عليّ السّريرَ والغطاءَ والوسادة،
يعيب عليّ كذلك الغرفةَ التي أنام فيها.
معك الحقّ أيُّها النّوم.
ـ 5 ـ
نعم،
تلك الشّمس التي لا تنتسب إلى أيّ فصلٍ من فصول الواقع،
تستطيع هي وحدها، أن توقظني.
ـ 6 ـ
رضوضٌ في جمجمة الضّوء.
ـ 7 ـ
ستجيء نجومٌ تتدلّى من سقوف البيوت كالقناديل،
ستجلسُ أسواقُ الذّهب على ظهور الأطفال،
ستديرُ طيورٌ غريبةٌ مدارسَ خاصّةً لتعليم فنون القتال،
سيبني الشّوكُ بأنواعه وطبقاته المتعدّدة المختلفة،
بيوتاً للنّحل
سيُقسِم العسلُ ألاّ يقيم إلاّ في شوارع تحرسها الزّنابير،
ستجري التّماسيحُ والأحصنة في سباقٍ واحدٍ في ميدانٍ
واحدٍ، تحت سماء واحدة،
سترقص الهياكل والمعابد، فرحاً، صباحَ مساء
قريباً، قريباً، قريباً.
ـ 8 ـ
عربٌ كثيرون يقومون من بين الأموات،
عربٌ كثيرون يغضبون ويحتجّون.
ـ 9 ـ
ماذا يُجدي هذه الفراشات المُشَرَّدة، المهاجرة،
قانونٌ يسمح بجمع شمْلِها؟
فراشاتٌ لا تعرف من أين تؤكَلُ كتفُ الفضاء.
ـ 10 ـ
رأسُه حشودٌ متنقِّلة.
والكلماتُ ظهورٌ منحنيةٌ، وأقدامٌ تتورَّم.
ـ 11 ـ
رحلَتْ هوادجُ الجَمال في قافلةٍ طويلةٍ من الجِمال:
كلُّ جملٍ بحْرٌ من الحزن،
كلُّ ناقةٍ صحراء من البكاء.
مَن قال إنّ الجَمالَ سيُعلن الحِداد؟
ـ 12 ـ
احتفاءً ببشرٍ يتدافعون، يقتلُ بعضُهم بعضاً،
تبني الرّياحُ أكواخَها في الشّجر وتكتب يومياتها،
أمّا الحديدُ والفولاذُ واليورانيوم
فتخرج جميعاً إلى الشّوارع، برفقة شركائها
للغناء والرّقص.
قال الجريحُ: لا أريد أن أرى.
قال الميّتُ القتيلُ: لستُ من هؤلاء ولا هؤلاء.
قال التاريخ: لكن، مَن هم؟ ومن أين؟
ـ 13 ـ
ما أغربَ هذه الوردةَ، وما أفجعَ حياتَها:
تبدو كأنّها تؤثِر، في هذه اللحظة، أن تنفصل عن كلّ شيءٍ يحيط بها،
أن تنفصل حتّى عن عِطْرها.
ـ 14 ـ
مَن هذا الإنسان الذي يحاربُ لتحقيق غايةٍ واحدة:
قراءة الماءِ بعين الرّمل؟
ـ 15 ـ
يقول إنّه حرٌّ ويناضل من أجل الحرّيّة؟
لماذا، إذاً، لا يرى في أيِّ جَناحٍ (بفتح الجيم) إلاّ جُناحاً (بضمّ الجيم)؟
ـ 16 ـ
يقول ذلك المناضل:
«الموتى عنده خيوطٌ تختبئ في ثياب الأحياء».
ألهذا لا يَقْتاتُ هو نفسُه إلاّ بالقتل؟
ـ 17 ـ
ـ من أين طار الغُرابُ الأوّل؟
ـ من بيت قايين.
ـ أين يقيم الآن؟
ـ ربّما في كلّ بيت.
ـ يقيم على الأرجح في اللغة، والفكر، والمخيّلة.
ـ 18 ـ
الحربُ ؟
أصَحُّ ما توصَف به، اليوم، أنّها حيوانٌ كونيّ.
وما أكثرَ جمعيّات الرِّفق بهذا الحيوان.
ـ 19 ـ
أهلاً بالتاريخ الضّيف.
ليس أمامك على المائدة إلاّ ما هو طازجٌ وخاصٌّ ولا مثيلَ له: موتٌ وأموات،
والجميع في خدمتك:
أطفالٌ يغرقون في الدّم،
وأمّهاتٌ يغرقن في الدّمع.
تفضّلْ وترأّسِ المائدة.
ـ 20 ـ
مَن هؤلاء؟
يأتون من لا مكانٍ، ويحتلّون جميعَ الأمكنة.
ـ 21 ـ
جرحٌ دائمُ النّزيف.
مع ذلك لا يجرؤ أحدٌ أن يسأل عن السّبب.
لا يدُ الطّبيب،
لا أيّ سائلٍ كيميائيّ،
ولا أيّ مِرْهم.
ـ 22 ـ
ربّما سيأتي يومٌ،
يُحَرَّمُ فيه على المخلوقات البحريّة،
أن تسبح عاريةً.
ـ 23 ـ
في الروايات، المتنـــاقضـــة غالباً، لكن الموثوقة غالباً، أو التي يُفرَض على النّاس أن يثقوا بها،
أنّ النّجومَ ليست إلاّ مصانع حريرٍ واستبْرَقٍ للأسرّةِ والسّتائر والوسائد التي تنتظر عشّاقَها الذين يحاربون من أجلها، سواءٌ كانوا قاتلين أو مقتولين.
السؤال الذي يؤرِّق الباحثين والمهتمّين هو: كيف سيكون لقاء هؤلاء المحاربين في عالمهم الآخر؟
هل سيكون لقاء حربٍ أم لقاء سَلام؟
ـ 24 ـ
إلى مَن أوجِّه سؤاليَ التّالي:
لماذا لا نجد في قاموس الثّورات المعاصرة أيّ عناء أو أيّة مشكلة، في تحوُّل القلم إلى سيف، والدّم إلى محبرة،
أو في تحوّل القاتل إلى قائدٍ محرِّر،
والخنزير إلى غزالٍ فاتن؟
ـ 25 ـ
ما لكلِّ زهرةٍ، اليوم،
تحبُّ أن تنموَ في شكل رصاصةٍ؟
ما لكلّ قنبلة، اليوم،
تُصِرُّ على أن تكون رَحِماً؟
ـ 26 ـ
ترقص الظّلماتُ، هاتفةً:
لا سَلامَ للضّوء، لا سلامَ على الضّوء،
وللأفق شكلُ النّفَق.
ـ 27 ـ
ليس للخراب وقتٌ،
الوقتُ هو نفسُه الخراب.
ـ 28 ـ
رفعَ القمرُ رأسَه، فشربته الأرض:
صداقةٌ عالية
يسوسُها مركزُ الشّمس.
ـ 29 ـ
مرّةً،
كان للفضاء شرفاتٌ عاليةٌ علوَّ الأرض،
لا أحدٌ يعرف ماذا حدث لها وأين صارت الآن.
ـ 30 ـ
سأحاول أن أعطيك ما لمْ ترَه عينٌ،
حتّى ولو لم تقدر أن تعطيني ما لم تسمعْه أذن.
ـ 31 ـ
هل رأيتَ موتاً ينزل إلى الشارع في موكب عرَباتٍ صُنِعَت
من عـظام ذلك الكــائنِ الذي يُســَمّى الإنسان؟
هل رأيتَ غابةً من النّخيل ليست إلاّ
أجساماً للحطّابين؟
هل رأيتَ نجمةً تسبح في مستنقعٍ للتماسيح؟
إذاً أنتَ السّائحُ المثاليّ،
وأهلاً بك في وطنك الثاني.
ـ 32 ـ
هلالٌ على رأسِ حربةٍ.
____
*الحياة