*جوخة الحارثي
لما ولِدَتْ ميمونة لم يكن في تجعيدة جسدها الخارج للتو من الرحم أي شيء غريب، سوى وحمة سخيفة أسفل قدمها اليمنى، ولكن أمها، التي بدأت بالتفكير فيما ينبغي عمله بعد الولادة، قالت ساهمة: «فيها شيء غريب». في يومها السابع ذبح أبو ميمونة شاة وتصدق بوزن شعرها المحلوق فضة، واختفت التجاعيد من جسد ميمونة وظلت الوحمة.
لما انقضت أربعون النفاس، وانفضت الزائرات، وطُويَت البسط الجديدة والسجاجيد، ورُفِعَت صواني التمر والفاكهة، تعرفتْ أم ميمونة الغريب في مولودتها: نظرة عينيها.
تفرست فيها مرارا وهي تستحضر وجوه إخوتها في أقمطتهم: خالد وجهه مثل العلكة الممضوغة، ومحمود وجهه مدور مثل البدر، نفثت في صدرها وتمتمت كأن محمودا ما زال بين يديها: «يخزي العين»، ووجه سليمان كان مليئا بحبوب الحساسية، فكرت الأم أن المسكين ما زال يعاني منها، أما هلال فوُلِد بوجه مسحوب إلى ذقنه، لكن أهدابه الطويلة أضفت عليه جاذبية خاصة، تشوشت أفكار الأم، لم ينظر أي من أولادها الرضع إليها هذه النظرة، هذه النظرة الغريبة التي لا تستطيع فهمها.
استشارت أم ميمونة جارتها أم عبدالرحمن، التي لم ترَ ما تتحدث عنه الأم، بل بدت لها المولودة مثل ابنتها عائشة تماما، ولكنها أرادت تطييب خاطرها فوعدتها أن تكلم أخاها الشيخ سعود ليكتب للرضيعة حجابا. زُمَّ الحجاب بخيط أسود في رقبة ميمونة، وحرصت الأم على تقميطها أمام الجارات لئلا يرى الحجاب أحد، ولكن نظرة الرضيعة الغريبة بقيت، فتحولت حيرة الأم إلى قلق.
نمَتْ أطراف ميمونة، استدار وجهها المشوب بسمرة خفيفة، بدأت تضرب الهواء بيديها وقدميها، ثم تصدر – في أحيان متقطعة – بعض أصوات المناغاة، ولكن أمها لم تفرح لشيء من ذلك، بل ظلت ترقب بقلق نظرة عينيها الغريبة التي لا تتغير.
كان هذا هو البيت الرابع في صف البيوت الواقعة على يمين المسجد، المقابلة لدكان سالم، ولمحل الحلاقة، والمخبز اليدوي، وكان بابه الخشبي المنقوش يفضي – ككل البيوت الأخرى – إلى حوش واسع اصطفت على جانبيه أشجار الليمون والسفرجل والورد البلدي، فيما ارتفعت نخلة وحيدة في آخر الحوش منحنية على الفلج المار تحتها كأنما تشرب أبدا، وكان للفلج سقف وجدران خشبية تستر الأم إذا استحمت، ثم أصبحت تستر أيضا ابنتها الوحيدة ميمونة، كما كانت متكأ للنخلة الهرمة، التي كفت عن طرح الثمار منذ زمن. حين غمست الأم جسدها في الفلج لتغتسل من نفاسها بعد ولادة ميمونة، قررت أن تكون هذه هي ولادتها الأخيرة، ظلت تصب على رأسها دلاء الماء الواحدة بعد الأخرى، وتفرك جسدها بليفة خشنة، محاذرة أن تعصر حليب صدرها، كانت تحاول تناسي أهوال الولادة قريبة العهد بالتفكير في أنها ستكون المرة الأخيرة، «نعم»، تمتمت لنفسها، المرة الأخيرة التي ستقول لها النساء: «ذقتِ الحلوى؟» فقد ذاقتها مرارا،وقد رأت فعلا «نجوم الظهيرة وجبال مصيرة»، تماما كما قلن لها – منذ حملها الأول – إنها ستراها في الولادة، وهذا يكفي، فلا تكرار الألم جعلها تعتاد عليه، ولا السخرية من الأهوال بنعتها بالحلوى تخففها حقا، ثم هاقد رُزِقت بالبنت المنتظرة، واكتمل حلمها بعد أربعة صبيان، فماذا تريد بعد؟ تمتمت: «هذا كاف، هذه نعمة، هذا رزق»، ولكنها ترددت هل ينبغي أن تقول: «الحمد لله» وهي تستحم من النفاس، أم يجب أن تنزه اسم الجلالة عن هذا الموضع؟ عصرت شعرها الطويل المفروق، غالبت حقيقة أنها وعدت نفسها في كل ولادة أنها الولادة الأخيرة، ثم نسيتْ وتلهفت وأنجبت من جديد، توضأت وهمَّت بالخروج من الفلج حين باغتتها لمعة الماء وقد انعكست عليها الشمس من خلل خشب السقف، أذهلتها اللمعة واخترقتها فرأت داخلها بوضوح شديد، وانكشف لها فجأة وجه الغرابة الذي أحسته ولم تفهمه منذ ولدت طفلتها، هزت رأسها فانحلَّ ثانية شعرها المعصور: «إنها النظرة، هذه البنت تنظر لي بطريقة غريبة، نعم، هذه البنت لا تنظر مثل باقي المواليد».
لبستْ الأم ثيابها المطوية على الحافة الحجرية للفلج، وضعت قليلا من دهن العود الهندي خلف أذنيها، وخرجت باتجاه الصالة المفتوحة على الحوش بأقواس وعقود عربية، عندها سمعت البكاء الخافت لرضيعتها فدخلت الغرفة الوسطى حيث المهد الصغير وفراش الأم بحذائه على الأرض، لم يكن إخوتها يبكون بهذه النهنهة الخافتة، كان بكاؤهم حادا لا يتوقف، التقطت الأم اللفة من المهد وألقمتها ثديها ففتحت البنت عينيها ونظرت في عيني أمها، اقشعرت الأم وتذكرت لمعة الفلج وانكشاف النظرة الغريبة على داخلها، كأن عين البنت من سر ماء الفلج، وفمها كأنما يترشف الحليب لا يمصه، أحست الأم بقطرات ماء على ظهرها، ولكنها لم تعرف إن كانت تتعرق في هذا النهار الشتائي أم أن شعرها المبلول لما يجف بعد، وفي تلك اللحظة استحضرت وجوه أولادها حين كانوا بعمر ميمونة، وفكرت في صياحهم وطريقة رضاعتهم المتشبثة بالثدي المصرة على عدم إفلاته، ونظراتهم غير المستقرة على شيء، وعندها قررت استشارة جارتها أم عبدالرحمن.لكن ميمونة، على رغم مشورة الجارة، وعلى رغم الحجاب المزموم بخيط أسود في رقبتها، وعلى رغم الحليب القليل الذي شربته، كبرت بنفس نظرتها، ولم تكبر معها أصواتها الخافتة، بل ازدادت تقطعا وخفوتا يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة، حتى إذا بلغت السادسة من عمرها كانت قد توقفت نهائيا عن إصدار الأصوات، واتسعت عيناها بالنظرة الغريبة.
أنفذت الأم قرارها الذي اتخذته يوم اغتسالها الأخير، وكفَّتْ عن إنجاب الأطفال، لم تهتم لإلحاح زوجها، ولا بتلميحات جاراتها إلى خطر تفكيره بالزواج ثانية، ما دامت لا تريد إنجاب غير هؤلاء الخمسة، وتصر على حرمانه من زينة الحياة الدنيا وهو لما يزل في أول الأربعين، قالت له ولهن: «خمسة الحمد لله، رزق ونعمة من رب العالمين، صبيان أعتمد عليهم وبنية تعتني بي في شيخوختي، الله يحفظهم». لم يتزوج زوجها من أخرى، كانت ابنة عمه وكان يحب رائحتها وحرارة حضنها وضحكاتها في الفجر، ولا يرغب في تحمل مسؤولية بيتين، وقد اقتنع أخيرا بما قالته عن الأولاد، ولم يكتشف سر جرحها.
لم يكتشف زوجها سر جرحها، على الرغم من كونه نافذا وعميقا، كانت – في اغتسالها الأخير – تظن أنها ستقرر التوقف عن الإنجاب، ثم ستنسى الأوجاع مثل كل مرة، بعد سنة أو سنتين، وتملأ البيت بطفلين أو ثلاثة آخرين، ولكن انكشف لها وعليها سرُّ نظرة الرضيعة، اللامعة كقطعة شمس في فلج، والثابتة كعمق ماء سحيق، لقد تمنت الأم دائما أن تنجب بنتا، وقد أخفت هذه الأمنية بعناية عن ابن عمها، الذي شاركته فرحه بصبي تلو الآخر، وأظهرت الامتنان لحسد الجارات لكونها محاطة بأسود سيكفونها مشقة التفكير في صروف القادم من الدهر، ولكن خيالات بنية صغيرة ظلت تكبر بداخلها، في كل اغتسال في الفلج، وهي تقسم إنها المرة الأخيرة، كانت أمنيتها تشعرها بحرج القسم، وأنها ناقِضتُه لا محالة، ما قيمة الأم بلا بنت تشبهها وتضفر شعرها وتتباهى بها؟ هل سيحممها أولادها الذكور إذا شاخت وعجزت؟ هل سيسخرون معها من الجارات ويخبزون لها العجين ويطبخون الأرز؟ هل سيشاركونها البكاء إذا ماتت شياهها أو مرض زوجها؟ لا بد من بنت، بنت تشبهها. ولكن ميمونة، سمراء ونحيلة وصامتة، كانت أبعد ما تكون عن شبيهة أمها، نَمَتْ بطولها النافذ كحربة تطعن أحلام الأم بلا رحمة، وحين ضربتها للمرة الأولى صائحة: «لمَ تنظرين إلي هكذا؟ هه…ما بكِ؟ ما بي لكي تنظري إلي هكذا؟ أأنتِ بلهاء أم ماذا؟» انطوى ترقرق الفلج في عيني ميمونة وانغلقت نظرتها كصندوقٍ مُحكَم، ثم لم تلبث أن غاصت عينها في داخلها فلم تفتحها في حضرة الأم إلا نادرا.
قال أبوها ببساطة: «ميمونة غير»، وحاول إخوانها إشراكها في ألعابهم الخشنة فلم تستجب إلا للعبة الدوران، من يدور حول نفسه أسرع من الباقين دون أن يسقط هو الفائز، لم تكن ميمونة هي الأسرع، ولكنها لم تسقط قط. لم يأبه إخوانها لصمتها، قادوها معهم إلى المدرسة حيث رسبت في الصف الأول، وإلى دكان سالم حيث أحبت نوعا واحدا من الحلوى، مصاصة تنتهي بدوائر متداخلة ملونة، وهي الحلوى التي كان ابن الجيران، عبدالرحمن، يشتريها لها كلما رآها أمام باب البيت تنظر إلى الدكان. في الصيف أخذها إخوتها إلى المزارع، جمعوا لها الرطب الفج، وأطعموها المانجو الأخضر بالملح، عصروا الليمون على الموز الأخضر وحشوه في فمها، وأجلسوها على جذع نخلة مقطوع لمشاهدة مسابقاتهم في قتل الضفادع، فركوا الوحمة أسفل قدمها بالليف، قذفوها في ماء السواقي، ثم نشفوها بمرجحتها بين اثنين منهم، أحدهما يمسك يديها والثاني يمسك قدميها ويطوحانها في الهواء وهما يصيحان: «صيد اليوم، من يشتريه؟ صيد طازج، من يشتريه؟»، وعادوا بها محمولة إلى البيت ودشداشتها التي جفَّتْ تخفق كراية على عنق محمود.
لكن إخوة ميمونة نسوا كل ذلك العبث الفَرِح حين وقعت الفضيحة بعد عشر سنين. كسف وجه محمود، وانتفخت بثور الحساسية في سليمان، أخذ هلال يزأر في أرجاء البيت، وترك خالد زوجته في غرفة الولادة حين سمع النبأ.
كانت ميمونة في التاسعة حين انزلقت الوردة لأول مرة. كانت واقفة بمحاذاة النخلة الهرمة تحدق إلى نقطة ما أعلاها، ساهية عن العصافير الثلاثة التي صادها هلال بنبلته، وشواها لها حين خرج أبوهم لصلاة العصر، كانت أمها تصيح مستنكرة: «هل تنتظرين الوحي؟ ألم ينزل جبريل بعد؟»، كان أصيلا رائقا، قد تلاشت أصوات الثرثرة أمام محل الحلاق، وكفَّ الأولاد عن تحطيم زجاجات البيبسي أمام دكان سالم، وتظاهر الإخوة بالانشغال بفروضهم المدرسية، إذ أوشك الأب على العودة من المسجد، وعما قليل سيشرب قهوته ويُرخي رجليه على حصير في ظل شجرة السفرجل، في تلك اللحظة، بمجرد أن فرغت الأم من صياحها، بمجرد أن انتهت جملتها، انزلقت الوردة، وردة فاغية بلون زهري غامق، تدحرجت بلطف من جدار الحوش الواطئ، ووصلت إلى ترابه سليمة كأنما وضعتها يد بعناية تحت قدمي ميمونة.
في يوم الفضيحة كان الكل منشغلا، الأم قضتْ النهار كله في بيت جارتها أم عبدالرحمن، وقفت أمام مراجل اللحم، وكالتْ بنفسها الأرز، حثت الجارات على الإسراع في تقطيع البصل والطماطم وتحميص اللوز مع الزبيب، فرشت مع أم عبدالرحمن السجاجيد الحمراء الجديدة، صفَّتْ قوارير العطر ودارتْ بمجامر البخور في أنحاء البيت، وحين غربت الشمس وعادت لبيتها بالكاد وجدت وقتا لتغمس جسدها في الفلج وترتدي ثيابها المطرزة وأساورَها الذهبية والعقدَ الثقيل الذي ورثته عن أمها.
سقطت الوردة على التراب فتملمت قدم ميمونة اليمنى قليلا فمسَّتْ إحدى بتلات الوردة الوحمة أسفلها، تأرجحت ضفيرتاها حين طأطأت وجهها إلى الأرض، ولما مسَّتْ البتلة وحمتها، ترقرقت لمعة الفلج في عينيها لبرهة، بلع حلقها ماءً عذبا، ثم رفعتْ رأسَها دون أن تنحني لالتقاط الوردة، ظلت تحدقُ فيها فقط.
بعد يومين، انزلقت الوردة ثانية، كانت ميمونة مسمَّرة في الحوش، تحدق في جداره، وكان أبوها لما يزل في المسجد وأمها تعدُّ قهوة العصر، هوَتْ الوردة من فوق الجدار وتدحرجت بهدوء، مسحت حوافها اللدنة الجدار طوبة طوبة وهي تهبط، تطايرت منها بتلتان أو ثلاث وحطت مقلوبة على مرمى خطوات من ميمونة، التقطت ميمونة الوردة من فرعها الأخضر الرهيف وقربتها من عينيها، انهرس الفرع اللين بين أصابعها لكن تويج الوردة الأصفر ظل زاهيا.
بعد أسبوع، سارت ميمونة بهدوء إلى شجيرة الورد البلدي، كان أحد إخوتها قد أسرف في سقي الأشجار وما زال الطين لزجا تحتها، قطفت ميمونة أكبر وردة وشبكت أصابعها وأقفلت راحتيها صانعة قفصا صغيرا للوردة، مشَت بموازاة النخلة المتكئة إلى سقف الفلج، ووقفت هناك. تخلل هواء يناير ثيابها، صاحت أمها وهي ترتقي درجات سلم الصالة حيث تنقي التمر: «ادخلي يا ميمونة، البسي كنزة صوف، الهواء بارد، تعالي». لكن ميمونة لم تتحرك، انتظرت قليلا ثم انزلقت الوردة من بيت الجيران، وفي لمحة واحدة، رفعت ميمونة ذراعيها وألقت بوردتها فوق الجدار. وقفت لبرهة تنظر ليديها الفارغتين ثم انحنتْ لالتقاط الوردة الملقاة قربها، غمستها في الفلج، فتهادت الوردة قليلا في الماء وانفرطت بعض وريقاتها ثم سبحت مع التيار. حين عاد الأب إلى البيت قاد ميمونة المغمضة من وقفتها على المصطبة الحجرية للفلج إلى الصالة، ألبستها أمها الكنزة الصوفية، ففتحت البنت عينيها في عيني أمها التي تنهدت وألقمتها تمرة. في تلك الليلة، مسدت الأم شعر ميمونة النائم، استعادت نظرتها النادرة في عينيها، همست: «مسكينة يا بنيتي، حظك قليل… لكن الحمد لله على كل حال».
بعدما اطمأنت الأم أن عقدها الذهبي سيكون مرئيا خلف النسيج الشفاف لطرحتها، وضعت قدميها المحناتين في نعال «أبو وردة» الذهبي، وانطلقت إلى العرس. أما أولادها فقد أربحوا الحلاق جارهم بالأمس ثم تكفلوا بأخذ العريس إلى حلاق المدينة الذي يستخدم الخيط لحفِّ الشارب، ويخص الزبون الذي يأتي كعبدالرحمن مزفوفا من أقرانه الأسخياء بتنظيف للوجه بالبخار، وغسيل للشعر بالشامبو والبلسم، كما شارك الحلاق في غمز العريس وإلقاء النكات المكشوفة، فهلل الرفاق وصفروا، وأعادوا عبدالرحمن إلى قريتهم ليكمل طقوس استحمامه.
ارتبك محمود وهو يداري هاتفه ليرسل لبنت الجيران، عائشة: «هم السابقون ونحن اللاحقون»، وقد جهدت عائشة في أن تلبس أفضل ما لديها، وتسابق الجميع في إظهار براعتها وحسن تدبيرها أمام جارتهم، التي لن تلبث أن تزور البيت لخطبتها، بمجرد أن يتخرج محمود هذا العام ويفاتح أهله بالموضوع. زينت عائشة وجهها بالبودرة وكحلت عينيها وهي تفكر في أرق صيغة تجيب بها على رسالة محمود، قلبت محتارة الهاتف الذي أهداه لها منذ أسبوعين فخبأته بين ثيابها في الخزانة، ولم تغير وضعيته الصامتة خوفا من اكتشاف أمها أو أبيها، أو – لا قدر الله – أخيها الغيور عبدالرحمن له.
في بيت العريس الذي شُيَّد في آخر صف بيوت الحارة، كان النقاش محتدما بين أم عبدالرحمن وأم العروس، بنت سالم صاحب الدكان، أجمل وأرق بنات القرية، فتدخلت النسوة لتهدئتهما محاولات إقناع أم العريس بأن العادة جرت هذه الأيام أن تتأخر العروس إلى منتصف الليل، فضربت أم عبدالرحمن كتف جارتها، وقالت لها: «ساعديني في توزيع الصواني»، ثم همست لها وهي تحاذيها: «هذه أولها، أخواتها أخذنها لمسقط كأنه لا أحد يستطيع تجميلها هنا، وأمها تطول لسانها علي، ماذا أقول لأبي عبدالرحمن حين يأتي مع الرجال زافا ولده؟ أقول له: العروس بسلامتها لم تصل إلى الآن؟….عائشة ستتكفل بإخباره…صحيح… لا أرى عائشة..أين اختفت؟..ربما ذهبت لإحضار ميمونة؟..»، والحقيقة أن التساؤل عن مكان ميمونة لم يدر بخلد أمها، ولكن إن لم تقتدها عائشة للفرجة على العرس فالأغلب أنها جالسة ساكنة في غرفتها كما اعتادت مؤخرا، كأنما تتحول تدريجيا إلى كائن لا يُرى ولا يُسمَع.
ظل الرجال بعد انتهاء عقد القران ينتظرون في المسجد، فرغوا من تناول الحلوى والقهوة، وبدأت الأحاديث الجانبية بينهم تتشعب، وعبدالرحمن ينظر في ساعته تارة وفي هاتفه تارة أخرى بانتظار مكالمة أخته عائشة التي ستخبره بوصول العروس، ولكن إشارة أخته وصلت إلى مكان آخر، لمع هاتف محمود بإضاءة وصول رسالة، فقام متذرعا بإحضار المزيد من القهوة، ثم التقط أنفاسه ليقرأ: «منذ أول وردة رميتها لي عبر الجدار ردا على وردتي وأنا أعرف أن يوم عرسنا آتٍ لا محالة». هزَّ محمود رأسه: «وردة؟..ورود ورود؟ .. من يرمي لها وردة عبر الجدار؟..هذه العائشة رومانسية وخيالية جدا، آه من البنات.. هل عليه أن يحضر لها وردا إذن أم ماذا؟ هو لا يصدق أنهما تحدثا أخيرا بعد النظرات والابتسامات المختلسة، ثم لم يصدق لما قبلت هاتفه الهدية، ما أعجب البنات!..ورود؟.. حاضر يا ست عائشة، يستحق الجمال الورد».
حين وصلت العروس وأُجلِست على الكوشة في صدر البيت، اتصلت عائشة بأخيها فوصل موكب الرجال وأجلسوا عبدالرحمن بجانب عروسه، اشتعل الغناء والرقص ونُثر الياسمين على العروسين، ثم لكز عبدالرحمن أخته ليُنبئها أن الوقت قد حان، فأعلنت للمدعوين أن صواني العشاء جاهزة، وأمسكت بذراع أخيها في حين أمسكت أخت العروس بذراعها، زغردت الأم وتقدمتهم لتفتح باب غرفة النوم فإذا بالمقبض مكسور، دارَتْ الأم انزعاجها، وقفت بظهرها على المقبض قبل أن تلاحظه قريبات العروس، ودفعت الباب ليدخل العروسان.
كان عبدالرحمن أول من شهق، فالتفتت ميمونة لشهقته وفتحت عينيها على اتساعهما في عينيه، شهق ثانية وكاد يسقط فاتكأ على الخزانة خلفه، تعالى الصياح واحتجب عبدالرحمن خلف الأجساد التي تدافعت للغرفة، فأغمضت ميمونة عينيها وعادت تتمرغ على السرير، عارية إلا من فانيلة داخلية لأعلى فخذيها، قذفت الأم سكين الفاكهة من يدها وهرعت إلى حيث الصراخ باسم ميمونة، رأت هيكل ابنتها النحيل شبه العاري يتلوى على سرير العروسين، لعابها يملأ الألحفة وأظافرها تنتف الوسائد، صرخت الأم وأهوت على ابنتها، فقاومتها ميمونة بشراسة، مدت يديها مباشرة إلى عيني الأم فتراجعت، ولما حاولت أم عبدالرحمن وعائشة إزاحتها خمشت وجهيهما وعضت كل يد اقتربت منها حتى أدمتها، اختلط الدم مع بقايا الطين اليابس في قدميها ليلطخ الفراش، تطايرت من فمها قضمات ورق من كتاب كانت تلوكه، كلما حاول أحدهم الاقتراب منها تشبثت أكثر بأعمدة السرير وتعالت حشرجاتها، انهارت الأم على الأرض، وأسرعت النساء لإخبار الرجال ولكن وقفن سدا دون دخول أحد فالبنت عريانة.
كان عبدالرحمن ما زال مصعوقا حين انتبه فجأة لبقايا الكتاب الذي تلوكه ميمونة، إنه يعرفه، لقد أهداه بنفسه لها قبل سنتين، حين أكملت خمس عشرة سنة وبدت شغوفة بشجيرات الورد البلدي، ففكر أن يفرحها بهذا الكتاب المصور لأنواع الزهور، كانت هادئة دوما ومبتسمة كلما رآها أمام الباب، لم ترفض الحلوى التي يشتريها لها أحيانا، ولم يسمعها – عندما كانت عائشة تحضرها لبيتهم – تصرخ أو تتحشرج إطلاقا. لكن هذه مخلوقة أخرى، هل ركبها فجأة مسٌّ من الجن؟ صاح في النسوة المذعورات: «احضروا أحدا ليقرأ عليها القرآن، واخرجوا، اخرجوا كلكم خارج هذه الغرفة، اخرجوا».
حين اندفع أخوها محمود إلى الغرفة كانت ميمونة متشبثة بالسرير بيديها وقدميها، صدرها ملتصق بالوسائد المنتوفة، وجذعها يرتفع ويهبط، ويهتز في الهواء كأنما ترقص، كانت مغطاة تماما بالعرق واللعاب وقد تحولت حشرجاتها لأنين مُتعَب، اقتلعها محمود من السرير بأقصى قوته، أحكم لفَّها بطرحة ناولته إياها إحدى النسوة ثم ألقاها كخرقة على كتفه، شقَّ بها الجموع، وأعادها إلى البيت، محمولةً على عنقه المبتل.
________
*جريدة عُمان