بوريس أكونين: مقطع من رواية «عزازيل»


*ترجمة وتقديم خليل الرز

أكونين كلمة يابانية تعني قاطع الطريق أو اللئيم أو الرجل الخارج على القانون، وهي الكلمة التي اختارها غيورغي تشخاتيشفيلي كنية له، بعد أن جعل اسمه بوريس عندما بلغ الأربعين من عمره. وكان يستطيع أن يكتفي باسمه القديم لولا الضجر الذي شعر به فجأة، والذي عبّر عنه في واحدة من المقابلات، من النجاح الذي حققه كمترجم. وكان لا يريد أن يتزوج من فتاة تصغره بعشرين عاماً، كما قال، وكما يمكن أن يفعل غيره في الوضع اللائق الممل الذي وجد نفسه فيه. لكنه لم يعرف ماذا يريد أن يفعل بالضبط إلا بعد أن جمع سير حياة الكتّاب المنتحرين في كتاب «الكاتب والانتحار». «عندما تمر بك مئات سِيَر الحياة التي تنتهي كلها بنهاية واحدة، تشعر بنقص الأوكسجين، وبالرغبة بأشياء مرحة وخفيفة. وهكذا بدأتُ بعمل أدبي مضاد، وكتبتُ «عزازيل»». الرواية التي صدرت عام 1998، والتي ظهر على غلافها لأول مرة اسم بوريس أكونين الذي سيختصّ بكتابة الروايات، وأحياناً المسرحيات، بينما يتابع إلى جانبه غيورغي تشخاتيشفيلي نشاطاته القديمة التي عرف بها. لكن الكاتبين مختلفان من حيث الطبيعة. «أنا وأكونين شخصان مختلفان»، يقول تشخاتيشفيلي، «أكونين في الواقع أكثر طيبة مني. هذا أولاً.


وهو، ثانياً، شخص مثالي، على عكسي. ثم إن إيمانه بالرب راسخ، الأمر الذي أحسده عليه». غير أنهما استطاعا، برغم خلافاتهما، أن يشتركا في تأليف كتاب «تواريخ المقابر» يضم مقالات عن نشوء أشهر المقابر العالمية القديمة، كتبها تشخاتيشفيلي، ومجموعة قصص تتعلق بهذه المقابر كتبها بوريس أكونين بأسلوب بوليسي. وهو، أولاً، كاتب روايات بوليسية. لكنّ ما يميّزه في هذا النوع من الكتابة أن مغامرات أبطاله تجري على خلفية أحداث واقعية من تاريخ روسيا، وبمشاركة غير القليل من الشخصيات التاريخية المعروفة، وإن كانت ترد بأسماء محرّفة، لكنْ يمكن حزْرها من السياق. وأحياناً يُصادي ببناء رواياته وشخصياته روايات وشخصيات فنية معروفة لكبار الكتاب الروس في القرن التاسع عشر. نشر بوريس أكونين حتى الآن عدداً كبيراً من روايات منظومة في مجموعة من السلاسل، لكل سلسلة بطلها الخاص. منها «مغامرات التحرّي إيراست فاندورين» التي بدأها برواية عزازيل، وقد أصدر منها حتى الآن اثنتي عشرة رواية. ومنها «مغامرات الأخت بيلاغيا» التي صدر منها ثلاث روايات، وغيرها من السلاسل، بالإضافة إلى الأعمال المستقلة. «هناك من يهوى جمع الطوابع، أو التخييم في أحضان الطبيعة، والغناء حول شعلة النار، يقول بوريس أكونين، أما أنا فأكتب روايات بوليسية، وهي عندي طريقة بالاسترخاء والشعور بالراحة». «وأتمنى أن أتمكّن ذات يوم من كتابة رواية بوليسية تمكن قراءتها للمرة الثانية. هذه مهمة صعبة التحقيق، فعندما تعرف الأحداث، وتعرف من هو القاتل، لا تعيد القراءة عادةً. لكنك تعيد قراءة شيرلوك هولمز». ولد أكونين عام 1956 في جورجيا، ويعيش في موسكو منذ طفولته المبكرة. «أنا موسكوفي الهوية، يقول، عندما يكبر الإنسان في مرجل صهر كموسكو يذوب انتماؤه العرقي. أشعر بنفسي أحد سكان مدينة كبيرة، مدينة روسية حتماً». تخرج من معهد آسيا وأفريقيا، قسم اليابان. ترجم الكثير من الأدب الياباني إلى اللغة الروسية. وترجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة في العالم.
_________-
في يوم الاثنين الواقع في 13 أيار من عام 1876، في الساعة الثالثة بعد الظهر، وفي نهار منعش كأيام الربيع، ودافئ كأيام الصيف، في حديقة ألكسندر، وأمام أعين شهود كثيرين، جرت حادثة بشعة لا يمكن وضعها في أيّ إطار.
في الدروب الظليلة، بين شجيرات الليلك المزهرة والأحواض المتّقدة بالتوليب الأحمر، كانت تتنزه جماعات من الناس المتأنّقين- سيدات تحت مظلات مزركشة بالدانتلاّ لحمايتهن من النمش، مربيات مع أطفال ببذلات البحارة، وشباب بملامح ضجرة في سترات صوفية دارجة، أو في جواكيت قصيرة على الطريقة الانكليزية. لم يكن ثمة ما يُنبئ بالسّوء، فالجوّ المشبع بأريج الربيع الناضج الواثق كان يزخر بالحبور الكسول والملل الممتع. ووهج الشمس كان حامياً، فالمقاعد الواقعة تحت الظلال كانت مشغولةً كلّها.
على مقعدٍ، من هذه المقاعد، قريب من المغارة الاصطناعية، متوجّه إلى شَبَكٍ يبدأ من ورائه شارع نيغلين، ويظهر أمامه جدار مانيج الأصفر، كانت تجلس سيدتان. الأولى في ريعان شبابها ( لعلها لم تكن سيدة، بل آنسة) كانت تقرأ كتاباً بغلاف جلديّ، وتتلفّت من حولها، من وقت إلى آخر، بفضولٍ مشتّت. أما الثانية فأكبر سناً بكثير، في ثوب كحليّ صوفي متين وجزمةٍ عمليّة بربّاطات، كانت تحوك، بانتباه شديد، شيئاً وردياً ساطعاً، وتحرّك سيخَيْ حياكتها بانتظام. وفي غضون ذلك كانت تُفلح بتبريم رأسها مرةً إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، فلا ينزلق من نظرتها الخاطفة الشاملة شيء جدير بالملاحظة مهما كان دقيقاً.
انتبهت هذه السيدة فوراً إلى شاب يرتدي بنطالاً ضيقاً بمربعات، وسترة مفكوكة الأزرار بشكلٍ مهمل فوق صدرية بيضاء، ويعتمر قبعةً سويسرية مدوّرة. كان يمشي في الدرب الظليل بصورة شديدة الغرابة: مرةً يتوقف ممعناً نظره بأحد العابرين، وأخرى يندفع، بتهوّر، عدة خطوات، وثالثةً يجمد في مكانه من جديد.
نظر الشخص غير المتوازن فجأةً إلى سيّدتَيْنا، وكما لو أنه اتّخذ قراراً محدّداً اتجّه إليهما بخطوات طويلة. توقف أمام المقعد، وخاطب الآنسة الفتية صارخاً بنشازٍ مازح:
– أيتها الآنسة! هل قال لك أحدٌ من قبل أنك رائعة بشكل لا يُطاق؟
حملقت الآنسة، التي كانت في غاية الجمال حقاً، بالشاب الوقح، وقد انفرجت، من شدّة الخوف، شفتاها الفريزيّتان. حتى صاحبتها الناضجة ذُهلت من حجم الوقاحة التي لا مثيل لها.
– أنا قتيل النظرة الأولى! – قال الشابُّ الغريب بلهجة المشعوذ، ومظهره في غاية الوقار (صدغان مُصفَّفان على الموضة، جبين عالٍ شاحب، عينان بنيتان مُتوقّدتان)- اسمحي لي أن أطبع على جبينك البريء قبلةً أخويّة أكثر براءةً!
– إنك سكران تماماً أيها السيد!- استفاقت السيدة من حياكتها، وقد بدت كما لو أنها تتحدث بلهجةٍ خاصةٍ بالألمان.
– إنني سكران من الحبّ حصراً- أكّد لها الشاب الوقح، وبالصوت المتصنّع النابح نفسه تابع مطالباً- قبلة واحدة لا غير، وإلا سأنتحر!
تراجعت الآنسة إلى ظهر المقعد، وهي تنظر إلى المدافعة عنها، فأظهرت هذه عزيمتها الكاملة دون أن تأخذ الموقف المتأزم بالحسبان:
– هيا انصرف من هنا حالاً! إنك مجنون!- رفعت صوتها، وقد دفعت حياكتها إلى الأمام مع سيخيها البارزين المتأهّبين للقتال- سوف أنادي الشرطة!
وهنا حدث شيء بدائيّ تماماً.
– هكذا إذاً! إنهم يصدّونني!- صرخ الشاب بيأسٍ مزيّف، وبحركةٍ تصويريّة غطّى عينيه بيده، وسحب من جيبه، فجأةً، مسدساً صغيراً يلمع بفولاذه الأسود- هل تستحق الحياة أن تُعاش بعد هذا؟ كلمة واحدة منكِ تُحْييني! كلمة واحدة منكِ تُميتُني!- توسّل إلى الآنسة، الجالسة لا كالحيّة ولا كالميتة- أتصمتين؟ إذاً وداعاً!
كان منظر السيد الملوِّح بالمسدس قد جذب طبعاً انتباه المارة. بعضهم، ممن كانوا بالمصادفة في مكان قريب- امرأة بدينة بيدها مروحة، سيد رزين حول رقبته صليب آنّا، طالبتا معهد بثوبين بنّيين متماثلين مع غطاء على كتفَيْ كل منهما- قد جمدوا في أماكنهم، حتى على الجانب الآخر من الحاجز وقف على رصيف الشارع أحد الطلاب. باختصار كان يمكن للمرء أن يأمل بأن نهايةً ستوضع أخيراً للمشهد البشع دون إبطاء.
لكنّ ما جرى بعد ذلك كان أسرع من أيّ تدخّل.
– بالتّوفيق!- صرخ السكران (المجنون ربّما)، ثم رفع يده بالمسدّس إلى رأسه، أدار أسطوانة الطلقات، ووضع الفوهة على صدغه.
– أيها المهرّج! يا بهلول الحمّص! همست الألمانية الشجاعة كاشفةً عن معرفة جيدة بالعامّية الروسية.
أصبح وجه الشاب، الشاحب أصلاً، رمادياً وأخضر، وقد عضّ شفته السفلى، وأغمض عينيه.
أغمضت الآنسة عينيها هي الأخرى على كلّ حال. وقد فعلت حسناً، فقد أعفاها ذلك من مشهدٍ مريع:
في اللحظة التي دوّى فيها الطلق الناري اختلجت رأس المنتحر فجأة، ومن الثقب النافذ، أعلى قليلاً من الأذن اليسرى، تدفقت نافورة حمراء مشرّبة بالبياض.
ثم حدث بعدئذ ما يصعب وصفه.
كانت الألمانية مُستثارةً تتلفّت من حولها كما لو أنها تدعو الجميع لأن يكونوا شهوداً على بشاعة لا تُصدق، ثم صرخت بصوت منهك اتّحد مع وَلْوَلة طالبتي المعهد والمرأة البدينة اللواتي تابعن صيحاتهن الحادّة في غضون ثوان معدودة. وكانت الآنسة قد غابت عن وعيها، لكنها، مع ذلك، فتحت عينيها لِلَحظةٍ واحدة، ثم تراخت في الحال. تجمع الناس من كل مكان، ماعدا الطالب الواقف عند شبك الحاجز- كان ذا طبيعة مرهفة إذ ابتعد، على عكس الجميع، باتجاه شارع موخوف.
كلمات
العدد ٢٦٣٨ 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *