لماذا تحوّل الكثير من الكاتبات رواياتهن إلى مذكرات؟


جوردن كيسنر/ ترجمة: ميادة خليل

في الوقت الذي بدأت أنتهج الكتابة بطموح جاد، وقعت فريسة فهم خاطئ من أن المذكرات هي شكل فطري بائس خاص بالفتيات، بكائي، وغير جاد. من الأفضل أن تكوني كاتبة مقالات وروائية على أن تكوني كاتبة مذكرات، استنتجت، وأن تحتفظي بدفتر اليوميات أفضل من أي شيء يتعلق بالأقفال الصغيرة ووضع علامات مائية ملونة على الاقتباسات الملهمة. هذا النفور الجنسي نوعا ما من المذكرات يبدو منتشراً على نطاق واسع، على الرغم من وجود تراث طويل من المذكرات الأدبية الممتازة لكل من الرجال والنساء ــ أو على الأقل حتى وقت قريب، كل كتاب ثالث يوصى به لي هو إما يوميات امرأة، عن يوميات امرأة، أو ألفته امرأة وهو بطريقة أو بأخرى من المذكرات في تركيبه البنيوي. الغريب، أني اجتهدت وفعلت ما لا تريد أي امرأة أن تفعله بمذكراتها: أعدت قراءتها.

في بعض الأحيان، من الممتع أن تكون مخطئاً جداً حول شيء ما، وهذه الموجة الحالية لمذكرات النساء هزمت أي تكبّر حول الشكل تماماً وبسعادة بحيث أن التخريب بحد ذاته متعة. أفكر بشكل خاص بــ”هايدي جولفتز” وكتابها “The Folded Clock”، و”Ongoingness” لــ”سارة مانغسو”، “The Argonauts” لــ”ماغي نيلسون”، “Dept. of Speculation ” لــ جيني أوفيل، ” How Should a Person Be” لـ شيلا هيتي، و”8: all true, unbelievable” لــ”أيمي فوسلمن”. (يمكنني المضي لفترة من الوقت). هذه الكتب لم تُرفض من النقاد أو القرّاء على أنها شيء تافه أو بذيء، لكن أُحتفي بها، بجدارة، على أنها انعطافة نوعية، جميلة، ومغامرة شكلية. الكاتبات أعدن كتابة يومياتهن في ما يُعدّ دائماً أفضل إعادة: بحدة، دون خوف، توليفة عقلانية مثالية وجرأة شخصية.
هناك شيء متشابه بوضوح عن هذه الكتب وعن الكاتبات. كلهن نساء في اواخر الثلاثينات والاربعينات، كلهن بيض، كلهن متزوجات، (وماعدا الكاتبة هيتي) كلهن أمهات. كل امرأة منهن مارست الكتابة، صراحة أو ضمناً، كردة فعل على القلق بشأن الزمن. “عرفت من البداية أن اليوميات بلا فائدة”، كتبت مانغسو في “Ongoingness”، “لكني لم أتوقف عن الكتابة. لم أتمكن من التفكير بأي طريقة أخرى تجنبني خسارة الوقت”. هذا ليس قلق جديد. كتابة المذكرات في محاولة للامساك بما لا يمكن الامساك به هو ممارسة قديمة. “تَذّكر ما كنت عليه ــ كان هذا هو الهدف دائماً” كتبت جون ديدين في “On Keeping a Notebook”.
المتعة في هذه المجموعة الجديدة من الكتب هو أنها واجهت قلق مرور الوقت بدفع قرّائها الى تداخلات صعبة مع الزمن الأدبي. يفكون مرسى مركبك في العنصر الذي يفكرون به بالذات. في “Ongoingness” على سبيل المثال، يبدو أنه تعجل فكرة أن: الكتاب مجزأ، مقسم الى إضافات من أقل من صفحة، عدد قليل من الجمل الطويلة فقط، وبالتالي فأن قراءة الصفحات أسرع بثلاث مرات من المعتاد. قبل أن تدرك ما حدث تماماً، ينتهي. موضوع مانغسو ظاهرياً هو آلاف المذكرات الهائلة من صفحات طويلة احتفظت بها طوال حياتها، نص بسيط واستحواذي طوقته لكنها لم تدخل فيه أبداً. موضوعها الحقيقي، رغم ذلك، ليس المذكرات على الأطلاق. إنه صراعها لتعيش وتبقى حيّة في الوقت المناسب. لتوجد السلام مع ما أسمته ” Ongoingness” (أو “الاستمرارية”). أخذت المصطلح من الكاتب جورج دبليو. س. ترو، الذي كتب قصة حياته، (كتب “الاستمرارية بحد ذاتها، بصراحة، مشكلة حقيقية”). “حاولت تسجيل كل لحظة لكن الزمن لا يتكون من لحظات، بل من دقائق” كتبت مانغسو. فيما بعد، اعترفت: “كتابة المذكرات هو اتخاذ سلسلة من الخيارات حول ما يجب أن يُنسى، وما يجب أن يُحذف”.
مثل “الاستمرارية”، كان كتاب جيني أوفيل “Dept. of Speculation” (أو “قسم التكهنات”) مجزأ، بينما يتابع تسلسل زمني مفكك، نتج بشكل خاص من المنطق الترابطي لراويها (الذي تحوّل من الشخص الاول الى الشخص الثالث بصورة مباشرة تقريباً) الذي أضفى على الكتاب تحولات ممتعة وغير مستقرة من حين لآخر. من السهل تبادل عواطف الراوي مع صديق، عندما نضيف لها خيال تلميذ، أحياناً “يفقد صوابه ويكتب بالآلة الطابعة الشيء نفسه مرة بعد أخرى: أين نحن في الزمان والمكان؟ أين نحن في الزمان والمكان؟” شوّش كل من الكوارث وراوي أوفيل الذي لم يُكشف عن اسمه، وقرّائها.
هايدي جولفتز، من جانبها، كتبت ” The Folded Clock” حرفياً وفقاً للنظام. كل مدخل للمذكرات مؤرخ بالشهر واليوم فقط. وكانت اليوميات تقفز بحيث أن السرد يقفز متأرجحاً في الزمن. فواصل ملحوظة في الغالب لأنها في أماكن مختلفة وسنوات مختلفة من صفحة الى أخرى. كانت في ولاية ماين، في روما، في مطار جورج كينيدي، تسلقت الجبال في أوروبا. كل مدخل يبدأ بإشارة الى الوقت الحاضر (“اليوم”) لكن العديد من الشرود في الماضي أو المستقبل، أو في تغيّر الزمن، تخيّل الزمن، المشاهد والاحداث التي صوّرتها جولفتز لكنها لم تعشها أبداً. “كم لدي الكثير من هذه اللحظات المملة؟” قالت لنفسها عندما كانت تدهن ظهر ابنها وهو يبكي. “يجب أن أتذكر أني فعلت هذا وأنا في السبعين. يجب أن أتذكر لأغلق عينيّ وأتخيّل أنني أنا مرة أخرى، أم متعبة تحاول تعليم نفسها كيف تفقد ما لن يضيع”.
من الغريب أن جولفتز ومانغسو، وكل الكاتبات الأخريات اللواتي أشرت لهن (مرة أخرى، ماعدا هيتي) اتخذن الأمومة كموضوع رئيسي. أن تصبح أماً، وتُنتقد وفقاً لسلوكيات تلك النساء، هو الدخول في علاقة غريبة خاصة مع الزمن. “في تجربتي الرضاعة هي الانتظار” كتبت مانغسو. “تصبح الام الخلفية التي يعيش فيها الطفل، تصبح الزمن”. نيلسون في ” The Argonauts” (أو “المغامرون”) كتبت عن الرضاعة، اعترفت: “لا أشعر بالحاجة الى تخليص نفسي من هذه الفقاعة. لكن هنا الصعوبة: لا أستطيع أن أمسك طفلي وأكتب في نفس الوقت”. كل تباطأ في الاتقان، يعاقب ملل الامومة ــ أيمي فوسلمن في ” 8: all true, unbelievable” يشبه الأمر تحويل أنفسنا الى أنسان آلي ـــ وأيضاً الاعتبارات بحد ذاتها ليست مملة على الأطلاق. هذه هي الكتابة عن الأمومة التي نجت من الانتقاد المثالي، العقول الملهمة خبيثة وغريبة ومثيرة الى حد ما.
مثل الكثير من القرّاء المعجبين بهذه الكتب، أنا لست أم، ولا أعرف ما يشبه ذلك أكثر من عقد واحد استحضره من سن البلوغ. لكني ذُهلت، تقريباً مثل كل شخص أعرفه. لماذا؟ بطريقة ما كانت تبدو مرتبطة، أو على الأقل مبالغ فيها عن طريق الأمومة، جوفتز، مانغسو، والبقية تخيلن الزمن على أنه ساحر، لا خطي، مُركب، ومتمرد الى حد ما ـــ صفات الشعور الفطري لمعظم الناس، لكن التجاهل في مصلحة الدقة والواقعية. “الزمن في داخلنا وخارجنا” كتبت أيمي فوسلمن في “: all true, unbelievable 8″، “إنه بحر رائع نتحرك فيه، قابل لانعطافات ودوامات مذهلة. و، بالطبع، مثل معظم الأشياء السحرية والجامحة وفي داخلنا، نحوّلها الى شيء صغير سهل الانقياد خارجنا”.
يظهر ميل فوسلمن واضحاً في الزمن الأدبي ــ الذي يُقيّد وينظم الزمن المؤقت بالسرد الخطي والبُنية، كما هو المعروف ــ كما هو الحال في الحياة الحقيقية، حيث أغلب الناس يتذبذبون مع قلق القوائم والساعات الذكية وتبعية الأجهزة نشرت قلق كل منهما وظيفياً بشكل غير ملحوظ. لكن سؤال الانشغال أو الآثار السيئة في أن تكون “متورطاً” أقل متعة من ما تعنيه الدقائق بالنسبة لنا.
في يوم آخر سمعت فتاتين في سن المراهقة في القطار، إحداهن وضحت للأخرى بأنها عرفت أن صديقها كان يتلاعب بها لأنه اعتاد على الرد عليها برسالة نصية في عشر دقائق والآن عليها أن تنتظر أحياناً لساعات. ادعى أنه قد ترك هاتفه في المنزل. “أعني، أرجوكِ” قالت الفتاة مع نظرة سخرية، “من يترك هاتفه في المنزل بعد الآن؟ ما هذا 2011؟” ذكرت لاحقاً، كما لو أنها تأملت في حادثة قديمة، أنه قبّل فتاة أخرى. ولذا أساء لها هذا بصورة أقل.
الزمن ربما الآن أكثر إيلاماً من ما كان عليه لأننا نادراً ما نسمح لأنفسنا أن نضيع فيه. الماكنة نفسها التي تقدم لنا الأخبار السعيدة والسيئة تربطنا بالعمل، ترينا صور علاقاتنا السابقة، تهمس عشوائياً بكلمات من الناس الذين غالباً ما نحتاج أن نسمعهم أو الناس الذين لا نريد أن نسمعهم مرة أخرى. لكن قبل أن تفعل أي شيء من هذه الأشياء تعدّ لنا هذه الماكنة الدقيقة. رغم هذا النظام الصارم، الشعور بالدقائق مرن بشكل غريب ــ ليس هناك ساعة تشعر إنها أطول من الساعة التي تقضيها في انتظار رسالة نصية، ولا دهشة مثل الخروج من حالة K-hole* الانترنتية لاكتشاف أنك قد بقيت حتى الساعة الثانية صباحاً تبحث في عرض مدونة ZooBorns**.
من المؤكد أن الزمن غريب ومرهق. راوي بروست تناول خمس صفحات قبل أن يقضم ثلاث قضمات من الكعكة، عثة وولف تناولت ألف كلمة لترتعش وتموت، واحدة من القصص القصيرة المؤثرة لــ توبياس وولف حدثت في ميكروثانية، تصوّر رصاصة مرت خلال جمجمة رجل. من هذا المنطلق، متعة المذكرات عندما تكتبها جولفتز، مانغسو، وباقي الكاتبات هو في أنها تسمح للدقائق (والأيام، والسنوات) أن تكون مرنة ــ “خياليّة وطيّعة” كما كتبت فوسلمن. حيث، بالطبع، كيفية الشعور بالزمن الفعلي، خاصة في الدقائق الأكثر أهمية. أحياناً، الشعور بالتقلّب خلال الزمن هو في الواقع كيف نعرف أن لحظة النظرة العادية هي اهتمام جدير بالاحترام. في نهاية ” The Folded Clock” تقريباً، وصفت جولفتز نزهة دائخة، بحثاً عن الصخور مع والدها وابنها:
“أمضيت الكثير من أيام الصيف مثل طفل يحاول أن يضيع للهو في الجزر. أبي أمضى الكثير من أيام الصيف يحاول أن يضيع للهو معي. كنا في مركز التسوق. كنا نلعب بالدوامات. كنا نحفر عميقاً. تلاشي الغير مرئي لكن الشيء الموجود هو ــ الزمن ــ كيف ن\\رتد عن أناس، وفقاً للغة على الأقل، لم نتوقف أبداُ عن محبتهم”.
هنا، الزمن تحرر من كونه قابل للقياس أو المراقبة ــ بدلاً من ذلك، هو مجنون وغريب وضخم، مراوغ ومتمدد. متعة الطريق (والكتاب ينتمي له) يتوقف على تحويل العادي الى الساحر، ومنح رخصة للشعور بضخامة الأشياء نعرف سراً أنها كبيرة. هذه الرخصة محورية لمتعتنا في الكتب التي تربكنا بطرق متشابهة الى حد ما، كتب تبدو مثل صرخة، في خوف وابتهاج: أين نحن في الزمان والمكان؟ راحة الشعور في أن عدم معرفتنا أمر لا بأس به.
المصدر: The New Republic
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* K-hole: مصطلح عامي يطلق على حالة انفصال العقل من الجسم، يفقد الانسان فيها الشعور بالزمان، المكان، التوازن، والمهارات اللفظية. عادة ما يعاني منها الانسان بعد تناوله جرعة كبيرة من الدواء المخدر.
** ZooBorns: مدونة تعرض صغار الحيوانات كسفراء عن أماكنهم من أجل جذب التعاطف والدعم لمحنة ههذ الانواع البرية من الحيوانات.
______
العالم الجديد 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *