د.فيصل درّاج*
حين كتب جبرا في «البئر الأولى» عن صباه المدرسي في القدس، كان يقترب من السبعين، متذكراً ما عاشه في وطنه، ومتأملاً منفى علّمه ما لا يتوقع. جمع بين الحزن والرضا، وآمن بذاته في الحالتين. استنهض، وهو يكتب، ذاكرة تحنّ إلى ما كان موحداً واندثر، ويوقظها شعور بعرفان حميم، فلولا الذين علّموه ورحلوا لما أصبح ما صاره، ولا كتب ما استذكره وسرده بأسلوب مضيء.
لم يكتب معلّموه، الذين تصرّف بهم الموت، عن ذواتهم، ولم يتركوا صوراً تخبر عما كانوا عليه، فالأموات لا أصوات لهم ولا أقلام، ولا رغبات قصيرة أو طويلة. أعار جبرا صوته إلى هؤلاء الصامتين إلى الأبد، ووضع قلمه في خدمة صوته وأصواتهم، وأعاد إلى الحياة صوراً مضى عليها خمسون عاماً وأكثر. كان عمره حين دخل إلى «مدارس القدس» أقل من عشرة أعوام، وكان ما قبل العشرين حين تخرّج فيها، وكان يقترب من السبعين وهو يخلق جسراً من كتابة بين تجربته الحياتية، وذاك الزمان القديم الحميم، الذي أطلقته الحياة، ثم ردّته إلى ذاكرة وضجيج وغبار.
ترك جبرا سيرة ذاتية مجزوءة، تحدثت عن طفل نجيب، وعن صبي تشرّب ملامح المكان في بيت لحم والقدس، وعن كاتب استعاد حياة شعبه بصفاء كبير.. بيد أن الشيخ، الذي استيقظ فيه الطفل القديم، ترك وثيقة دافئة رسمتْ مدرستَهُ (المدرسة الرشيدية الثانوية) في مدخلها الخارجي وساحتها الداخلية والدّرَج المفضي إلى صفوفها ومكاتب موظفيها وألوان الضوء التي تخفق في غرفها، ورسمت مديرَها، الصارم الأخلاقي، ومعلميها، في أناقتهم وطرق نطقهم وحركاتهم، وفي لطفهم المحسوب وغضبهم الذي يأتي على غير توقع. مرّ جبرا على معلّميه فرداً فراً، ذكر أسماءهم والجامعات الإنجليزية التي تخرجوا فيها، وشغفهم بالنظام الذي ميّزهم إلى جانب صفات أخرى.
استعاد جبرا، في «البئر الأولى»، ما كان عليه طفلاً وصبياً، وما كانت عليه فلسطين قبل الرحيل، ناطقاً بوفاء متعدد الوجوه: وفاء لأخيه وأمه وأبيه، ووفاء للمكان الذي غسله هواؤه، ولذلك الزمان المليء بالغبش الذي كان يخبئ أكثر من مفاجأة، ووفاء لمعلمين تناثرت قبورهم، ولبسطاء من البشر، لعب معهم في حواري بيت لحم واختلط بهم في أزقة القدس.. أبت ذاكرته أن تتخلى عن أسمائهم، وحملتها إلى «شارع الأميرات» في بغداد، الذي ستروّع الطائرات الأميركية أهله، وتشعل النار بالمكان الذي «أجار جبرا»، بعد ضياع فلسطين.
في مروره على أسماء معلميه ورسم ملامحهم، كان جبرا يتذكّر، وفياً لذاته ولغيره، ويذكّر قرّاءه أن الوفاء فضيلة، وأن نسيان من هم جديرون بالشكر والعرفان فعل لا يليق بإنسان كريم. فهؤلاء الأموات، الذين لفّهم العجز والصمت، كانوا أحياء بيننا ذات مرة، علّمونا وبادلناهم الكلام وأدخلوا إلى قلوبنا المسرة، وأنّ حالنا من حالهم، وأنّ العجز والصمت سيضمّاننا بعد حين.
زاملت رواية جبرا أصواتاً راحلة، استيقظت في فلسطين ولم تغادر ترابها، وتركت أقلاماً «منفية» تعود إليها بشجن. يعود الراحلون في رواية جبرا الأولى بعد المنفى، في شكل أنثى أهلكها الإرهاب، ويرجعون في الرواية التالية مع فنان جميل بدّدته الطلقات، ويراهم القارئ في «وليد مسعود» ويرى الأرض وأزاهيرها ولون التراب ومذاق النسيم، ويراهم في الأعياد والأفراح، وفي أحزان متوالدة.
تحتضن فضيلة الوفاء، التي تمسح شيئاً من غبار النسيان، فضيلة الانتساب، التي ربطت جبرا بالسابقين عليه، وبأوفياء له علّمهم وتعلّموا منه إنساناً وروائياً مثقفاً، وفلسطينياً ردّ على منفاه الشائك بتكامل إنساني خصيب. علّم غيره نعمة الوفاء وبطولة الإبداع، وتعلموا منه ما استطاعوا تعلّمه، وكرهوا الجهل والجحود والتعالم الفارغ. جاء جبرا من اجتهاده ومن شغف الانتساب، ومن شخصية والده، الذي ساوى الإنسان بخلقه وقيمه، وعلم ابنه أنه مسؤول عن ذاته وعن غيره.
كان جبرا يفاجئ غيره بتواضعه، يضع إنجازه وألقابه وجوائزه جانباً، معبّراً عن بساطة واسعة، وعن ألفة تلغي الحواجز بين البشر، متبسطاً قدر ما يستطيع، حريصاً على الاحترام وقواعد الحوار. كان يغض الطرف عن نواقص الآخرين، مكتفياً بحركة من يده، تتبعها ابتسامة راضية. عارفاً إن ردّه قائم في إبداعه، وأن ما عاشه وتجاوزه إجابة كافية، وأن قيمته لا تأتي من «الخشاشي» القديمة ولا من «شارع الأميرات»، الذي أزهر في بغداد ذات مرة، موقناً أن مرجع الإنسان الحقيقي قائم في ذاته.
كان في تغاضيه البشوش عن نقد الآخرين وانتقادهم ما يقنعهم بمراجعة صامتة، وبالاعتراف بأن الإنسان الواسع فيه يفيض على الكاتب الشهير الذي أصبحه، وبأن جبرا يقوّم في تكامله الإنساني-الثقافي، كما لو أنه، في تسامحه وحرارة قلبه، كتاب كثير الإشارات والرموز، لا يقرأ دفعة واحدة. وما كان ذلك بعيداً عن إنسان ساقه حب الألوان إلى الرسم، وأخذ بيده الرسم إلى الموسيقا، وأفضى به عشقه للرسم والموسيقا إلى الشعر ودوائر المطلق، فكتب الرواية شاعراً، واستعاض بمنظوره الشعري عن السياسة والأيديولوجيا والحسبان الباحث عن مصلحة. لذا بدا لبعضهم أنه «ساذج في السياسة»، وأنه «لا يتحزّب إلا لنفسه». والحكم هذا ساذج مرتان: لم يكن هذا الأديب-الفنان مشغولاً بما تأتي به المواسم السياسية ويرحل معها، إنما كان شغوفاً بالقيم الإنسانية العليا، القائلة بالصدق والنزاهة، والتي تظل ثابتة في السياقات المختلفة. كان قلبه الحار، كما وعيه الوطني الأخلاقي، قد اطمأن إلى «الرؤيا»، حيث الحقيقة في ما يراه القلب، لا في ما تراه العين، مثلما أن إنجاز الحقيقة ماثل في فضاء لا تطاله السياسة ولا «يتلوّث» بالتاريخ.
ومع أن للثقافة غواية جذبت جبرا وانجذب إليها، فقد ذهبت إليها مدفوعاً بـ «حدس الكمال»، الذي يعيّن الثقافة رافداً لـ «الرائي»، لا بداية له، ذلك أن بدايته التي تحضّه على العمل وتحصيل المعرفة راقدة داخله ومحاطة بيقظة ساهرة. لم توقظ الثقافة جبرا، كان «يقظان» قبل التماسها، وإن كان في عناصرها ما أعانه على إتقان عمله وتوسيع منظوره للعالم. فحين اشتقّ روايته الرومانسية من ذاته، التي تعني مفرداً مبدعاً لا يطاله الخطأ، استعان بأناشيد الرومانسيين الإنجليز، ثم استلهم وليم فوكنر ليكون طليعياً في مجاله الروائي، وسأل دستويفسكي إضاءةً في موضوع الخير والشر، والتفّ بصوفية دنيوية، إن صح القول، متأملاً «قدساً» من ذهب، تسمو فوق الأزمنة.
كان جبرا يهجس بمعرفة ما يحتاج إليه، وبما يوائم «رؤيا» دينية الجذور، جعلته واضحاً وغامضاً معاً: واضحاً في غاياته الأخيرة، وغامضاً في الوسائل التي تفضي إليها. ولهذا ذهب إلى عالم الرموز والأساطير مبكراً، فترجم «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر، وأضاءه بكتاب «ما قبل الفلسفة» لهنري فرانكفورت وآخرين مؤمناً، على الدوام، بأن إلى جانب «العقل» ملكة، تتجاوزه، وأن رحابة الخيال تتضمن الواقع وتمتد خارجه، وأن مملكة الروح مزيج من الألوان جميعها.
غير أن قيم جبرا الكلية والثابتة، التي يهيمن عليها كتاب مقدس لا ضفاف له، لم تمنعه عن الاعتراف بالمستجدات الأدبية والفنية، فذهب إلى قديمه وجديده واستنار بشكسبير وشرحه بأكثر من ترجمة، ونقل إلى العربية «في انتظار غودو» لصموئيل بيكيت، ولم ينسَ ألبير كامو، الباحث عن حرية لا تقبل بالانتهاك، والشاعر الأميركي «ديلان توماس»، الذي مات في التاسعة والثلاثين من عمره، وكان له، كما يقول جبرا: «وجه يمتزج فيه الملاك والشيطان امتزاجاً فذاً».
كل أديب من المثال الذي ينظر إليه. نظر جبرا إلى عوالم «الخصب والتجدد»، وأعطى ديوانه اسم «تموز في المدينة « (1959)، واحتفى بالرومانسيين في «صيادون في شارع ضيق»، وجاور فوكنر في «السفينة»، ورأى في تعددية الأصوات ما يحجب المعنى ويجعله أكثر وضوحاً، ومزج بين الشعر والرواية واللاهوت ورسم «وليد مسعود».. استبقى، في الحالات جميعاً، مثالاً ثابتاً و»رؤيا» عصيّة على التغيّر، وإن كان التقدّم في التجربة أرخى عليها بعض الظلال. وبقي مخلصاً للشاب الذي كانه في القدس، يرسم باللون وبالكلمة وبالصورة الشعرية، ويتأمل رسوم غيره، ويعهد إلى الرسم، في أشكاله المتنوعة، بإصلاح هذا العالم.
ساوى جبرا بين الثقافة والحقيقة، وأخلص لأدوات الثقافة، حاذفاً المسافة بين العمل والموهبة، وبين الإبداع الفردي والهاجس الجماعي. عبّر عن إخلاصه بترجمة كتاب «صناعة الأديب» (لعشرة نقّاد أميركيين) معترفاً بأن الأدب صناعة، وبأن تطوير الأدب من تطوير التقنيات التي تنتجه. وبقدر ما كان يحافظ على رؤيته الرومانسية، التي لا سبيل إلى تغييرها، كان يلجأ إلى الأدوات الثقافية المتغيّرة مصالحاً، قدر ما يستطيع، بين الثابت «الرؤيوي»، الذي لازمه، ودينامية الإبداع، التي تختلط فيها الفنون جميعاً، دون أن تأخذ صيغة أخيرة. لكأنه كان يقول: من لا يخلص لإبداعه لا يخلص لأحد، والمبدع الذي يخذل عمله، يخذل قضاياه الإنسانية، وقضيته الوطنية.
عمل جبرا، في مساره الطويل، على الكشف عن جوهره الفردي الخبيء الذي هو، كما أخبر أكثر من مرة، جوهر فلسطيني من «القدس» بامتياز، وعمل على الاحتفاء بالجوهرين معاً. بل إنه خلق جوهراً «فنياً» يلبي دروب اللاوعي المبتورة..
أحلامه، يصل بين الماضي والحاضر، ويشتق من الزمنين مستقبلاً ذهبياً، يعيده إلى القدس. أقام عمله الأدبي والثقافي على تجربة النفي ومعاناة المنفي، وإصراره على «تجاوز» المنفى واستعادة زمن سوي قديم لم يكن الفلسطيني فيه منفياً.
مايز جبرا بين القضية والتجربة، إذ الأولى من اختصاص مؤرخين يبحثون فيها عن الوقائع والأسباب والنتائج، ويتفقون أو لا يصلون إلى اتفاق، بينما دعى «الأدباء» إلى كتابة التجربة، التي عاشها إنسان محدد، اختبر المنفى واختبره المنفى، وظل معلّقاً بين الأمل والشقاء. كيف يجتمع الأمل والشقاء داخل إنسان منقسم يشتهي أن يكون موحداً كبقية البشر؟ يأتي الجواب من وعي الذات المنقسمة لأحوالها، ومن سعيها إلى امتلاك جواب غير مسبوق، لا يأتي غالباً بشكل صحيح. وإذا كان جبرا قد اتخذ من الرواية موضوعاً للتيه والخلاص، فقد وضع في شعره «قلباً فلسطينياً» مزّقه العتب والعذاب والظلم والشوق الشائك والفعل المقاتل المرغوب الذي يحفظ الكرامة. وقد تجلى ذلك في لغة شعرية «خشنة» وفي صور شعرية «مكسوة بالأنين».
أعطى جبرا في شعره صورة المأساة، في شكلها الأقصى، وصورة الأمل، في شكله الأكثر عذاباً. يقول في مجموعته «لوعة الشمس»:
«أأعدّ الآن السنين
لأؤكد أن النصفين فينا
يتناقضان ويتلاحمان
يترافضان ويتكاملان،
كالصمت يحوي الرعد في جوفه
أو الرعد يتعلق صمت الصاعقة».
وجود منقسم مغترب يرهقه تناقضه، فيتوحد منقسماً وينقسم موحداً، ويصمت راعداً ويرعد صامتاً، في حركة دائبة، أشبه بالمتاهة، عمرها سنين، تقاس بوجع الروح، لا بالأرقام البسيطة.
أنطق جبرا «أشواقه» شعراً وروايات وحكايات ومقالات ولوحات، وحمل الفلسطيني الذي فيه إلى جميع الجهات: المنفي والصابر والمتحدي والفَرِح الحزين والمبدع بلا حساب. هذه أمور جديرة بالوفاء، وجديرة أكثر بالتذكّر. فقد حكى أحلامه، وأنطق الذين حسمهم الموت وهم يحلمون، وظل بريئاً وصادقاً، طفلاً حكيماً في هيئة كهل، أو كهلاً شاب شعره وظل طفلاً. فقد خرج مثل غيره إلى المنفى، ومات مثل غيره في المنفى، وعاش كما لم يعش غيره، في المنفى، وجعل من أحلامه أسلوباً في الحياة.
في تذكّر جبرا، بعد عشرين عاماً على رحيله، نلامس «ضفاف الذاكرة»، الفردية والجماعية، ذلك أنه وُلد في العام 1920 في زمن الانتداب. وتذكّر ثورة 1936 التي أجبر فيها الفلاحون المقاتلون الشعبَ الفلسطيني على ارتداء الزي الفلاحي الممثل بـ «العقال والكوفية»، وغمس قلمه في نزيف الرحيل، وأصمته الموت في بغداد (1994) ولم يرَ من حلمه المنشود شيئاً.
وفي تذكّره نقترب من «تفعيل الذاكرة»، مطالبين أنفسنا بالدخول إلى عوالمه، التي هي من طبقات الإنسان المضطهَد ، الذي مر عليه ظلم كثير وعدل قليل. وفي تذكّره نقوم بـ «إنطاق الذاكرة»، حيث وراء المنفى أطياف بيت لحم وأشتات من القدس، بقدر ما أن أمامه شعباً توزّعت أوصاله على العالم بأسره.
انتهت الذاكرة الفلسطينية إلى «ذواكر»، راضية باستبداد المكان أو رافضة له، وانتهى جبرا إلى ما انتهى إليه: رسائل في الأدب والفن وإبداع حالم، يهجس بالعدل ويرفض الإجابات الجاهزة، التي يدور حولها المؤرخون. فلا تمكن مساواة الذاكرة بالتاريخ، إلا إن أخطأ الفكر في تعريفهما، لأن في الذاكرة ما يفيض على تعاليم التاريخ، حتى لو كانت جليلة، ففي مواجهة الوقائع التاريخية، الممتدة من فترة إلى أخرى، تعيش الذاكرة مرور الزمان، الذي يلتبس بالعقل والروح وآثار الراحلين.
انصرف جبرا إلى دلالات الحق والكرامة والتمرد، ولم يتوقف طويلاً أمام العلل والأسباب والمقدمات المنطقية.
كلُّ «أرشيف» مرآةٌ لدروب وآثار، وقيمةُ «الأرشيف» من الدروب والآثار التي احتفظ بها. خلقَ جبرا «أرشيفه»، وقصّر المسافة بين الدروب والأحلام، ذلك أن الفلسطيني الذي حلم به، مجرد احتمال لا أكثر.
نرى في جبرا اليوم وجوهاً من فلسطين راحلة، كانت واضحة واندثرت، وأديباً شاملاً أزهر في المنفى، وتلقي علينا أطيافه أسئلة مرة المذاق، فقد جاء ورحل، مخلفاً وراءه فراغاً لا تملؤه الدعوات الصادقة، ولا «الشعارات» التي تبدو «متماسكة» وتذوب إن سطعت الشمس.
– الرأي الثقافي