هستيريا إعلامية

 

طاهر علوان

الخبر المستند إلى صانعه ومصادره الخاصة أوجد لنا نمطا إخباريا فريدا من نوعه. من خلاله صار صناع الأخبار يسابقون منافسيهم في تقديم “سبق صحافي” وإخباري قائم على المصادر الخاصة التي لا تكلف شيئا ولا تلزم بشيء سوى أنها تمارس اللعبة الجديدة القديمة في تقديم حصاد إخباري يختلط فيه الصالح بالطالح.

 

لهذا كله صارت الحاجة إلى بدائل تستقطب الجمهور العريض، وتدفعه إلى المتابعة بسبب نوع الخبر وكونه يندرج في إطار ما يعرف بالسبق الصحفي الذي صار حالة نادرة وصولا إلى ما صرنا نسمعه من عبارة تتكرر فحواها “علمنا من مصادرنا الخاصة”، هذا النوع من الصحافة وصناعة الأخبار فريد من نوعه في العالم العربي فمتى شاءت الوسيلة الإعلامية وخاصة القناة الفضائية أن تدس أنفها في الموضوع المطروح وتمرر أفكارها وتوجهاتها فإنها تلجأ إلى لزوم ما يلزم، إلى تلك الوسيلة البراغماتية الإخبارية المبتكرة التي لا تكلف جهدا ولا مالا ولا يعرف من هو صانع الخبر ولا منتجه ولا المسؤولية على من ستترتب، فمصادرهم الخاصة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
المعتاد في تقاليد العمل الصحفي إحالة الأخبار إلى مصادرها الحقيقية والحرص الدقيق على حقوق الملكية ومسار الخبر وحيثياته لكننا صرنا نشهد يوما بعد يوم تجردا من هذه المسؤولية ونأيا بالنفس عنها وصولا إلى حالة من الإبهام الذي هو أقرب إلى الفبركة الصحفية منها إلى أي شيء آخر.
أما من الطرف الآخر فهنالك المتلقي المستسلم لكل المصائب والتداعيات والمشكلات والكوارث، فالحروب المشتعلة في طول العالم العربي وعرضه تقريبا. الحروب الأهلية والمناوشات الإقليمية على كثرتها وجسامتها لم تعد تتيح متسعا لذلك المتلقي لكي يراجع أصل الخبر فيعيد قراءته والتحقق من صحته الحقيقية، فإذا ما قام بذلك افتراضا فستُلقى فوق رأسه أخبار أخرى جديدة ولهذا لن يتمكن من التحقق من شيء بل سترى عبارة “علمنا من مصادرنا” في أخبار أخرى، ألم نقل إنها لزوم ما يلزم في الإعلام العربي في شكله الاستقطابي الذي يثير في بعض الأحيان نوعا من الهستيريا الإعلامية التي يريد مصدر الخبر أن يشعر المتلقي بها.
الهستيريا الإعلامية لا تختلف كثيرا عن هستيريا الصراعات والحروب الأهلية المتفشية في العديد من البلدان العربية حتى صار الخبر امتدادا لتلك الهستيريا وتنويعا عليها وليس إعادة قراءة واعية ومنصفة ومتوازنة لأسباب ودوافع الصراع.
يثير المشهد المتعلق بالإعلام والصحافة اليوم كثيرا من الجدل والنقاش بسبب تضاؤل المسافة ما بين المصدر والمتلقي، بين الوسيلة الإعلامية وجمهورها. فبإمكان ذلك الجمهور محاورة صانع الخبر بسهولة تامة ليس أقلها وسائل التواصل الاجتماعي كما نعلم، وفي الوقت نفسه ولسهولة الوصول إلى الخبر صارت المنافسة على الخبر نفسه أسبقية أولى، فبفضل وكالات الأنباء المتخصصة أصبح هناك تشابه في الأخبار، فحواها ومراميها ونتائجها متشابهة، ناهيك عن إعادة الصياغات التي تطال الهامش دون أن تغير شيئا ذا قيمة في المتن.
العرب

 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *