ذَكَرُ البُورِي الغَبِيّ


نورالدين العلوي*

خاص ( ثقافات )



لغة سادرة في الصمت والصمت سيد بعد انصراف الناس وشروع البحر في تنظيف جلده. الشمس خلفي وظلي يسبقني إلى البحر والصمت سيد .الريح رخية وللبحر رائحة من ملح وشيء لا يكون إلا في رائحة البحر . الصنوبر يشرف على ملح البحر ويظل أخضر ما أبهى انصراف الناس عن مكان أحبه. كأن الجمال يعود ملكك طائعا بعد أن عجز العابرون عن قلع منابته وضمه في كنوزهم. يمكنني الآن أن أجلس إلى البحر. قرأت ذلك في الكتب. الجلوس إلى البحر يريح العين والقلب لكنه يفسد السيجارة بين يديك.إنها تشتعل بسرعة ولا تعطيك وقتها ولا تتفاعل معك بل مع الهواء الخارجي. البحر يشعرك بخيانة السيجارة فتذوي بين أصابعك كشهوة عابرة.
كان وحده في الأفق الواسع يستقبل البحر. يقف على الشاطئ ويدخل قليلا في الماء الضحل ثم يتراجع ثم يتقدم. ممسكا بخيط لا يرى من بعيد إنما يده الممدودة في اتجاه البحر تشير. ثم يدخل بسرعة ويرمي الشبكة كأنه يمسك طيرا وقع في فخ. لم تكن حركاته من حركات الصيادين التي عرفتها. يذهب خطوات إلى الوراء ويرمي شيئا في حفرة … للحظة بدت لي حركاته من أعمال الشعوذة. وأوحت أسماله بأنه يعيش في زمن آخر والبحر الذي لوح بشرته حتى كأنه قطعة من ليل في النهار توحي بخلل في مكان ما.الفضول جعلني أتابع حركته الغريبة ثم أتفطن إلى انه يأخذني من نفسي ومن بحري إلى ما يريد رغم صمته البعيد. لقد كان في عالم ويوشك أن يخرجني إليه فلا أكون. شغلت نفسي بتبغي وصمتي وبياض سفينة عملاقة تعبر في اتجاه الغرب. ستدخل الليل قرب كورسيكا وقد تصابح بحر مرسيليا إذا واصلت الريح في رخاوتها الحلوة. كم من راكب ينظر الآن إلى البلاد التي ترك خلفه وكم من راكب يتشوق للبلاد القادمة وكم عاشق يسترق قبلة على سطح السفينة.وكم طباخ يغرق في دهاليزها ليعد طعام مسافر لا يراه؟ على مرأى العين من الشاطئ كانت علامات الطفو الملونة المربوطة في شبك مرمي في مسارات السمك تلمع تحت شمس العشية. سيخرج البحارة الصغار لجمع ما علق بها.وسيحضر التجار الكبار للمساومة على رزق قليل ساقه الموج للصياد.
الريح رخية والبحر يضوع برائحة لا تكون إلا له. وأفكاري مشتتة حول إلف فكرة لا تستقيم. جئت أرتبها فانفضت من حولي كأنها سرب حمام بري فاجأته في بيدر مهجور. كيف أبدا الطريق الباقية إلى غاية لا أتبينها. كيف أكون في كثرتي واحدا. أو كيف أتعدد ولا أتبدد.أو إلى أين أسير بي في موهن العمر ؟ البدايات الأولى كانت دوما تفتح على بدايات أخرى ولا تكشف غاية إلا الطريق. صار الطريق هدفا حتى لا أتوقف للنظر. الوراء مرعب والطريق طويل. والوحدة أنيسة من ثغاء القطيع. والكِبرُ عزلة بذيئة لكن التواضع ذل مقيت. أفكاري تحرقني ولا تقدح وحولي كان البحر يضوع برائحته والهواء رخي والماء بارد. البحر ينظف جلده من العابرين ويبتسم لقدوم شتائه القاسي. سيحرك الماء التراب وتغذي الشمس نبات البحر العميق. كان الصياد الغريب يرمي شبكته في البحر ويجري خلفها ثم يجري نحو الشط ويكرر فعله كمشعوذ لا يبالي بالطريق. 
استولى علي. 
سرت إليه ووقفت أحسب حركاته وأفسر الشعوذة. كان ذكر البوري الغبي يقع بين يديه كالذباب.
لم أعرف كيف ميّز بين أنثى السمك والذكر.التجربة الحكمة وعلم المدارس تكملة. كان ربط سمكة قال إنها أنثى في خيط صنارة متين وربطها إلى مادة طافية لكي لا تتيه عن ناظره وأرخى لها الخيط بقدر فغاصت ولم تبتعد. ثم رفت على السطح مقاومة قوة المادة الطافية وكان ذيلها يثير رغوة صغيرة خلفها تحدد مكانها لغيرها وتؤكد حياتها للصياد. كانت أنثى هكذا جزم وأقنعني. وكان ذكران النوع يتهافتون عليها حتى أنهم يظهرون للعين المجردة. هي لحظة فارقة تقاس بالثواني يقدره الصياد بحكمته. في لحظة رمى الخيط من يده فتبين انه كان مثقلا بكتلة من رصاص. وجرى بالشبكة بين يديه ودار خلف السمكة الراقصة فلم تر ظله في الماء. ورمى الشبكة فوقها. لم تكن وحدها. لما رفع الشبكة جاء في يديه بسمكة كبيرة من نفس النوع ربما كان رأسها أكبر قليلا ولونها أقرب إلى السّواد. قال هذا ذكر البوري الغبي. ثم حمله إلى حفرة على الشاطئ كان حفرها حتى نز منا ماء البحر. ورمى فيها صيده فظل حيا يرقص في ماء قليل. إذا باعه حيا كان ثمنه أرفع منه وقد مات. كان في الحوض قطيع من ذكر البوري الغبي. ثم عاد وما لبت أن وقع ذكر آخر وطابت لي الفرجة وانصرفت عن أفكار تحرقني ولا تقدح فكأنما وجدت خلاصا في التخلي. الرجل متقن الحركات. يعرف متى يرخي لسمكته فيوهمها بالعمق ويعرف متى يسترجعها بحيث يراها. في غوصها توهم الذكران بقربها فيلتحقون وفي قربها يظهرون للصياد فيطامن شهوتهم حتى يرمي الشبكة. ويقعون فرادى ومثان.رمية الشبكة محكمة تنزل كأنها فراش واسع مثقلة أطرافها بالرصاص فتوقع تحتها السمكة المربوطة والسمك الطليق.فلا يجد قدرته على رفعها والمروق من تحتها فالرصاص ثقيل.
أية سلطة للأنثى على الذكران.الغزيرة مهلكة تضمن النوع وتهلكه. لها سلطة والسلطة أنثى تثير الغريزة فيقع الفحول. الوقعة غبية والنهاية حفرة ضحلة.قلت له الرغبة قاتلة. قال لي الغباء أقتل. كان ذكران البوري ينتفضون في الحفرة انتفاضتهم الأخيرة. ربما كانوا يتندرون بوقعتهم.فالخيط في رأس السمكة لم يظهر لهم حتى انتهوا. ذلك الخيط الواهي الخفي بيد الصياد الذي لا تنعكس صورته في الماء.كم أودي بالذكران الأغبياء. ذكاء الفكرة ينجي من الغريزة ويدل على الطريق. والصمت قرب البحر صلاة خاشعة فقد كان ماء البحر طهورا كله. تبدو بقية الطريق أوضح والحكمة على قارعة الطريق.

• روائي وأكاديمي من تونس

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *