بائع «بزر»


*عبد الحليم أبو دقر

خاص- ( ثقافات )

صار ” أبو ساعة”، صاحب محمص كبير في أهم شوارع الزرقاء وأكثرها ازدحاما، يحتار ممن يأخذ الدنانير لكثرة الأيادي التي تلوح بها فوق رأسه، وصار الجميع يزورونه ويخطبون ودّه، حتى الأشخاص المسؤولون يدخلون إلى محمص “ أبو ساعة”، يذكرون المواقع التي يشغلونها، يرددون على مسمعه: «أي خدمة؟ لا تتحرج، لا تتردد، لا تتأخر، هذا تلفوني». يتعاملون معه كأنهم على علاقة به منذ عشرات السنين، أصدقاء طفولة، أبناء حارة واحدة، ولا يخرجون إلا وأيديهم محملة بما لذّ وطاب من المكسرات الشهية الطازجة هدية بمناسبة الافتتاح في البداية، ثم لم يعد «أبو ساعة» يذكر أي سبب لتقديم الهدايا لهم، كان سعيدا في التعرف إلى مثل هؤلاء الأشخاص المهمين، كان يشعر من خلال علاقته بهم أنه أصبح مهمّا، وأن قوته آخذة في الازدياد، وأنه انتقل من مكان إلى آخر، صعد من (ب) إلى (أ)، وبدأ «أبو ساعة» يتخيل أنه بمكالمة هاتفية منه، أو رسالة (sms) قادر على تسليك أي موضوع عالق في أضيق الأماكن..
تضرر أصحاب المحلات المجاورة لـ»أبو ساعة» من تمدد زبائنه إلى أرصفتهم، ووقوفهم أمام واجهات محلاتهم الزجاجية يسدّون مداخلها . 
اعتمد «أبو ساعة» في الترويج لبضاعته على تقليب طرحات البزر والفستق واللوز فور خروجها من المحمصة على الرصيف أمام المارة، فكانت تنبعث من تلك الطرحات دفقات البخار المعبأة بالرائحة الشهية القادرة على جلب الزبائن من أقصى الأماكن. 
كان لدى تلك الرائحة قدرة خارقة على الاستقرار في أنوف العالم وحثهم على التوجة إلى محمص «أبو ساعة»، في كل يوم كانت تلك الرائحة الطيبة تبعث إليه زبائن جددا، فتزداد الحركة أمام محمصه، تنتشر البسطات على اختلاف أشكالها، ويتجمع بائعو اليانصيب والسجائر والقهوة والشاي والغيارات الداخلية والجرابات… لم يبق أحد من الباعة الجوالين إلا وحضر على الرصيف أمام محمص “أبو ساعة”، حتى صبيان (الأسكيمو) والبوظة التي ظن الجميع أنهم اختفوا إلى الأبد عادوا يبيعون مثلجاتهم أمام محمص “أبو ساعة”، كما أن باعة العرْق سوس والخروب والتمر هندي تواجدوا بأزيائهم الفلكلورية، وطرابيشهم الخمرية المزينة بالشراشيب السوداء، وأباريقهم النحاسية الكبيرة الندية المرفوعة على ظهورهم، يضفون سحرا على الرصيف أمام محمص “أبو ساعة” برنين صنجاتهم النحاسية العريقة، وصيحاتهم المختصرة شبه الغامضة على شرابهم الطبيعي المثلج الذي يروي العطشان.. 
ويظل البخار يتصاعد من الحلل الضخمة المليئة بالذرة المسلوقة، ومن صواني الفول النابت إلى ساعات متأخرة من الليل على الرصيف أمام محمص “أبو ساعة”، ويهب من وقت إلى آخر الدخان المشبع برائحة الشواء من إحدى العربات.. وفجأة ومن دون سابق إنذار تعلو الموسيقى الصاخبة ليقدّم معلم التحميص النحيل المربوع العاقد شعره الطويل الناعم إلى الوراء رقصته التي يقلّب فيها طرحة البزر أمام الجميع، كانت الأرض تنشق لأكثر من مرة تحت ضربات قدمي معلم التحميص، تقذف بالمشردين والمتسولين والمعتوهين والتائهين، فيتساقطون مثل الفراش على الرصيف أمام محمص “أبو ساعة”، وحتى لا يجرفهم الضوء الباهر المتدفق من محمص “أبو ساعة” بعيدا يختفون من المشهد سريعا، يلوذون بالعتمة من جديد.. 
صاحب إحدى العربات التي تُبسّط أمام محمص “أبو ساعة”، وهو من بلدة على أطراف الزرقاء، تقدّم بعربته من باب المحمص، أعاق حركة الزبائن، فقدَ “أبو ساعة” أعصابه، أزاح العربة بعصبية عن الباب، شتم صاحب العربة، وصفعه صارخا فيه: «اقلب وجهك، إذا رجعت أدعس على رأسك..». 
من سوء طالع “أبو ساعة” في ذلك الصباح أن عددا كبيرا من أصحاب البسطات من بائعي المرطبات، من الزبائن، من المارة، أقارب لصاحب العربة، لم يقصّروا في ضرب “أبو ساعة”، حتى إنهم تفننوا في التدعيس عليه إلى أن حضرت «النجدة» وأخذتهم إلى مركز الأمن، كان استقبال “أبو ساعة” في مركز الأمن عاديا جدا، لم يكن كما كان يتوقَّع، فلم يتعرّف عليه أحد، حتى إن صاحب العربة كان له معارف أكثر من “أبو ساعة”، وكلما سأله أحد: «آه، خير، أيّ خدمة»، يرد صاحب العربة: «تضاربت أنا وبائع بزر. 
الرجال المهمّون أصدقاء “أبو ساعة” الجدد، أين هم الآن؟! أغدق عليهم الهدايا.. لم يحضر منهم أحد. قال “أبو ساعة” لنفسه: «على الأغلب أنهم خجلوا أن يتدخلوا في مشاحرة بين بائع بزر وصاحب عربة يبسط على الرصيف، جنازة كبيرة والميت كلب، يريدون التوسط لتاجر كبير (أوفرسيز)، رجل أعمال حقيقي، بضائعه تأتي من أعالي البحار، حتى إنه وقتها لن يحتاج إلى وساطتهم…
في مركز الأمن طلبوا من “أبو ساعة” أن يتصالح مع صاحب العربة و جماعته، أو يبيت الجميع الليلة في النظارة، ويتم ترحيلهم إلى المحكمة في الصباح.. صار “أبو ساعة” يضرب رأسه بجدار النظارة: احتلوا الرصيف أمام محمصه، ضربوه، ويصالحهم! دعسوا على رأسه، ويصالحهم! بائع البزر ليس تاجرا، بائع البزر في أحسن الأحوال صاحب محمص يبيع بالقرش والتعريفة، يعني فكّة، فراطة.. بائع البزر لن يتحول إلى «ماسك صامد».. ما زلتُ على الرصيف، ما زلت في الخارج، في العراء، في البرد.. لا بد أن أشكر صاحب العربة على كل ما فعله معي، كشف لي إلى أين عليّ أن أتوجه، مكاني الحقيقي ليس على الرصيف، مكاني (أ)، مكاني في الداخل.. كم كنت غبيا عندما اعتقدت أنني صرت (أ)، هم أوهموني، ضحكوا عليّ وخرجوا بالكاشو واللوز والفستق الحلبي.. بهذه الطريقة لن أكون (أ) في يوم من الأيام، هذا ليس طموحي، ليس حلمي.. 
وبدأ “أبو ساعة” يُشهد باب النظارة الحديدي الأسود، وجدرانها الرمادية المصبوغة حديثا، وسقفها الواطئ، وأرضها المبلّطة الرطبة: «إنني، وفي ويوم قريب، سأكون من أهم التجار الشطار الجدد».

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *