لنا عبد الرحمن
في صورة التُقِطت له من الجانب الأيسر، يبدو الكاتب الهنغاري لازلو كرازناهوركاي LÁSZLÓ KRASZNAHORKAI يدخّن سيجارته وينظر إلى أسفل، فلا تبدو عيناه بزرقتهما الحادّة، يربط شعره الأبيض إلى الخلف، ويفكّر بعمق، وتحت الصورة كُتِبت جملة قالها في أحد حواراته: «أكتب نصوصي داخل رأسي، في الخارج هناك ضجيج ،غالباً لا يُحتمل، أما في الداخل فلا يوجد سوى الصمت المهيمن”.
هذا الصمت حوّله الكاتب إلى سرد يحمل بين ثناياه نوعاً من الرعب، الكوميديا، الجمال، والإثارة أيضاً؛ مما جعل جائزة مان بوكر العالمية (2015) تصل إلى يديه بعد منافسته، في اللائحة القصيرة، أسماء أدبية قوية الحضور جديرة بالقراءة والاكتشاف، كونها حقّقت تنوّعاً في التجارب الروائية بسبب تعدّد الانتماءات الجغرافية للكُتّاب، وثراء الموضوعات الروائية، منهم الكاتب الهندي أميتاف غوش، والروائية ماريس كوندي القادمة من إحدى جزر غوادالوب، والكاتبة الأميركية مارلين هو، والكاتب الأرجنتيني سيزار عيرا.والجدير بالذكر أن القائمة ضمّت كاتبين عربيين هما: الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، والكاتبة اللبنانية هدى بركات.
لازلو كرازناهوركاي اسم جديد بالنسبة للقارئ العربي، لم تُترجم، حتى الآن، أيّ من أعماله إلى العربية، وربّما يأتي فوزه بهذه الجائزة بداية لاكتشاف عوالم هذا الكاتب الذي رأى- هو أيضاً- أن نيله للبوكر سيكون جسراً لوصول رواياته إلى قرّاء جدد قائلاً: «آمل أن أتمكّن من خلال هذه الجائزة أن ألتقي بقرّاء جدد في العالم”.
هذه الرغبة لا تنفي أن لازلو كرازناهوركاي كاتب مكرّس في هنغاريا وألمانيا، بل في أوروبا عموماً، وهذا يتّضح من سيرته الشخصية التي تكشف عن عدّة جوائز وتكريمات نالها على مدار رحلته الأدبية، مثل أعلى تكريم ثقافي في هنغاريا، وجائزة كوسوث، وجائزة أفضل كتاب تُرجم في الولايات المتحدة، لمدّة عامين متتاليين.
نشر لازلو خمس روايات، أشهرها رواية «تانغو مع الشيطان» (1985) و«كآبة المقاومة» (1989). تنتمي أعماله إلى روايات ما بعد الحداثة، حيث الدمج بين عالم العقل وعالم الجنون، الفانتازيا والكوميديا السوداء، الشغف والخوف، الخسارة والرغبة العدمية والانتظار، ربما لهذه الأسباب وُصِفت رواياته بالصعوبة التي لا ينفيها الكاتب، بل يفاخر بها، كتابته ليست من أنواع الكتابة الرائجة جماهيرياً، وهو يدرك هذا جيداً، بل يفسّره بقوله: «إن معظم الكتابات التي تتميّز بنوع من الجدّية سوف تحظى بترويج سيّئ، هكذا كانت كتابات كافكا، كذلك الأمر بالنسبة للكتاب المقدَّس، فالعهد القديم من الصعب قراءته، مَنْ يجد صعوبة في قراءة أعمالي يجدها أيضاً عند قراءة الكتاب المقدَّس، هذا لأن الثقافة الاستهلاكية تهدف إلى وضع العقل في حالة تنويم، حتى إنك لن تكون واعياً للحالة التي وصلت إليها، ويتمّ إنفاق الكثير من الأموال للحفاظ على هذا الوضع، بل يوجد هوس عالمي لتحقيق غياب الوعي؛ مما يخلق نوعاً من الثبات الوهمي في عالم قائم- أساساً- على التحوّل المستمرّ، هذا يؤدّي إلى افتراضات بالأمان لا وجود لها من الأساس.”
يكتب لازلو عن هنغاريا، عبر الرمز، وأحياناً بشكل واضح عن المرحلة التي سيطرت فيها الحقبة الشيوعية، عالم متوتِّر، وأجواء ضبابية مائلة إلى السوداوية تسيطر على رواياته، وفي وسط هذا يُطعِّم سرده بنوع من الكوميديا الساخرة.
يصف النقّاد العديد من أعماله بأنها تعالج -استعارياً- نهاية العالم، وزوال المدنية، والتكنولوجيا، ومن وجهة نظر لازلو أن هناك مراحل في التاريخ لا يتخيّل معها البشر -فقط- أن حقبة ما ستنتهي، بل إن العالم كلة يمضي إلى حتفه، يقول: «إن توقّع النهايات وارد دائماً، لأننا لا نعرف سوى معلومات قليلة عن أسباب اندثار الحضارات القديمة، سواء أكانت إغريقية أم فرعونية أم غيرها، مثلاً بالنسبة للرومان حين انهارت روما كان هذا بالنسبة لهم انهياراً للعالم كله أيضاً، أرى أن (التاريخ الأوروبي وغير الأوروبي) ليس إلا سلسلة من الهزائم والأزمات، أظن أنه لو كان هناك حياة بعد مئتي عام سوف ينظرون إلينا بكثير من الهزل.”
من خلال الاطّلاع على حوارات لازلو يمكن تلمُّس بعض جوانب التناقض في شخصيّته؛ هو يصف نفسه بأنه لا يتكلَّم كثيراً، ويمضي أيامه في الوحدة والصمت، لكنه حالما يبدأ بالكلام فإنه يتحدّث بشكل متواصل، لكن دون أن ينهي جملته.
وُلِد لازلو عام 1954، درس الحقوق واللغة الهنغارية والأدب، نشر أولى رواياته «تانغو الشيطان» التي قدّمته إلى الوسط الأدبي الهنغاري، ثم تحوّلت إلى فيلم سينمائي أخرجه مواطنه بيلا تار عام 1994، كما أخرج، في العام 2000، روايته الثانية «كآبة المقاومة”
غادر لازلو هنغاريا عام 1987 ليقيم في برلين الغربية، كما تنقّل بين عدة دول، ثم استقرّ مدّة من الزمن بين منغوليا والصين. في عام 1999 وخلال كتابة روايته «الحرب والحرب» استقرّ في نيويورك في شقّة الشاعر الأميركي آلان جونسبرغ، حيث استفاد كثيراً من تلك الأجواء الأدبية التي أحاطت به.
يعدّ لازلو نفسَه ناقداً لأعماله، إذ بعد مرور ثلاثين عاماً على صدور روايته الأولى أعاد قراءتها وتقييمها وتوصّل إلى حكمة تقول إنها ماتزال تصلح للقراءة في هذا الزمن أيضاً، حيث لم يتغيّر أيّ شيء عن الزمن الماضي.
تتحدث رواية «تانغو الشيطان» عن إحدى قرى المجر، لكن القرية التي يحكي عنها لازلو لا يوجد فيها ذاك الجانب الريفي للقرى، بل يكشف من خلال سكّانها عن كل البشاعات البشرية التي على إثرها يتطلّع الناس لأيّ نجاة من هذه القرية البائسة التي تغرقها الأمطار، إلى أن يصل إيريس الذي ظنّوه ميتاً بسبب اختفائه الغامض، ليقدّم لهم الوعود بالثراء وإنقاذ البلدة من الفقر والبؤس، يبدأ في جمع الأموال منهم، وهم ينظرون إليه كمخلِّص، إلا أنه ليس أكثر من شيطان في ثوب نبي.
إن لازلو- في إعادة تقييمه لروايته ورؤيته لها أنها ماتزال تنطبق على هذا الزمن- يستند- كما يبدو- إلى الجشع الكوني الذي أصبح مهيمناً على البشر في شراهتهم للمال، وتهافتهم على العالم الاستهلاكي الذي يستهلك إنسانيتهم في نحو أوّل. روايته الثانية «كآبة المقاومة» كتبها عام 1989، وتُرجمت إلى الإنجليزية عام 1998، تناول فيها مدينة صغيرة في هنغاريا، يصل إليها سيرك جوّال غامض، تصف الرواية حالة من الهوس الجماعي لسكان المدينة عقب وصول السيرك، وطريقة تفاعلهم مع الأمر.
تشترك روايات لازلو- غالباً- بوجود منطقة من التساؤلات العدمية لأشخاص منسيّين في بقعة ما من العالم، ثم يصل إليهم وافد يعدهم بالمستحيل، هذه الدلالة الرمزية التي يستعين بها لازلو كأنه ينبّه من خلالها إلى تأثير الحضارة الغربية على البشر، ثم وصول العالم إلى نقطة من الظلام بسبب الافتتان الأعمى بالعالم المادي البحت.
الجدير ذكره أن جائزة مان بوكر الدولية تُمنَح كل سنتين لكاتب لا يزال على قيد الحياة، عن روايات نشرها باللغة الإنجليزية أو تمَّت ترجمتها، ويُعَدّ لازلو الفائز السادس بالجائزة، فقد مُنِحت- سابقاً- لإسماعيل كادريه في 2005، وشينوا أشيبي في 2007، وأليس مونرو في 2009، وفيليب روث في 2011، وليديا ديفيز في 2013.
الدوحة