لوحة ثريا البقسمي
منى سليم
زينة، ياميش، صلاة تراويح، مسلسلات درامية، فوانيس، ألعاب نارية، مسحراتي، شحاذين، أبواب مفتوحة، زيارات عائلية.. تلك البروتوكولات الرمضانية هي أهم المقتنيات المادية والمعنوية الغالية التي لم تستطع قسوة الحياة أن تسلبها للأهالي في كل أحياء وشوارع مصر. تشكي الناس ليل نهار من قلة حيلتهم وضيق حالهم تبدّل الى مهمة سامية وهي العيش 30 يوماً بطعم مختلف، محاولين قدر الإمكان إدخال الفرحة رغم الوجع الذي لا يمكن مداراته هنا وهناك، ويختلف حجمه من بيت الى آخر، ومن حي إلى آخر.
كرم رمضان ـ كما يفهمه المصريون ـ يمكن ترجمته أمام السرادق الكبيرة لبيع ما يطلق عليه مجازاً “مستلزمات رمضان” بينما هو في حقيقته كل ما يحتاجه البيت المصري في كل شهر ولا يستكفي منه، وكذلك في حالة التسامح المقصودة مع الشحاذين الذين يعرف مانحهم أنهم غالباً مدَّعون، ولكنه يرددها داخل نفسه بوضوح ـ وفق موروثه الحضاري: “رمضان كريم”
تلمس أثر رمضان بشكل خاص داخل الأحياء الشعبية العريقة التي استطاعت أن تعيش رغم كل ما مر بأهلها، بل واكتسبت من كل وافد إليها أجمل سماته قبل أن يرحل عنها ويتركها فوق أرضها مستمرة في تشكيل الحياة. حي “الدرب الأحمر” إحداها، هناك في قلب قاهرة المعز، حيث شوارع تحت الربع وباب زويلة وحارة الروم والمغربلين والخيامية وسوق السلاح وأهل السروجية والتبانة.. حي يحمل كل شارع فيه قصصا وتاريخا، وأيضاً حياة عادية. مشهد الصبيان والشباب يطرقون كل باب لطلب خمسة جنيهات تبرع لتزيين الشوارع يتكرر مع كل صيام، وفي ليلة الإمساك الأولى قبيل الفجر تمتد الخيطان بالقصاصات المربعة والمثلثة على شكل هلال وفانوس وبينها أنوار حمراء وصفراء، ويعود بائعو الكنافة ومشروبات التمر والعرقسوس إلى أماكنهم على امتداد الطريق طوال الشهر كأنهم كانوا هناك دائما. أما الفوانيس فقد احتفظ هذا الحي ضمن أحياء قليلة بحق تصنيعها وتوزيعها. تخرج العربات محملة بمئات الفوانيس كل صباح وتمر من أسفل باب زويلة الذي عُلقت فوقه مئات الرؤوس التى قطعها الحكام قبل مئات السنين..
أما الخدوش وحتى الجروح الغائرة فتتواجد هى الأخرى وتعلن عن نفسها رغم رحابة كلمة “رمضان كريم”. فخلف “فرشات” الكنافة والتمر على امتداد الشارع رجال ذوو عصبة يفرضون أتاواهم على الجميع، فعلى من يريد أن يجد فرصة للرزق بهذا الشهر الذي ينتظره من عام لعام أن يدفع من أجل السماح له بالحصول على منطقة لا تزيد مساحتها على متر ونصف المتر. والإتاوة لا تحميهم بالتأكيد من خطر وصول جنود البلدية.
وخلف الدكاكين الصغيرة التي تسمى مجازاً مصانع “الفوانيس” في منطقة الربع مئات التنهيدات الغاضبة من تدهور حال هذه الصناعة بعد أن اخترق المصنع الصيني كافة المجالات، فسلبهم اجمل ما تميزوا به طوال عمرهم. وهكذا أصبح الفانوس نفسه فيخطر، ففقد شكله العتيق المحبب وأصبح يرقص ويغني وهو يتخذ أشكال ووجوه شخصيات كرتونية من عالم ديزني!
أما خلف أبواب البيوت فآلاف القصص التي تحاول أغاني رمضان هدهدتها. هناك أم فقدت ابنا فى حادث سير أو مظاهرة أو تبعدها عنه أسوار الزنزانة، هناك أب لم يحصل يوماً على عمل مستقر ويخاف أن تنفد مدخراته قبل نهاية الشهر الكريم، آلاف الفقراء يأتون فروضهم كاملة دون تفكير بما يسميه الفقهاء “حكمة الصوم” أي الإحساس بمعاناة الفقير .
وسط تلك الأسرار الموجوعة التي لا تخفى على أحد، تخرج الحكومة هذا العام ـ ككل عام ـ لتعلن عن سلسلة قرارات لتخفيف ما اسمته “معاناة المواطنين” وتوفير كافة متطلباتهم خلال الشهر الكريم. الترتيبات على الأرض تشير الى تغير نوعي في حجم المتوفر من السلع الاستهلاكية وفي أسعارها خلال الشهر. هذا ما تكشف عنه الطوابير المتراصة امام جمعية “الدرب الأحمر” التعاونية بشارع المغربلين التي تقدم خدماتها لما يزيد عن 800 ألف مواطن، إلا انها وحدها بالتأكيد لا تكفي طالما استمرت هذه الفجوة بين حدي الأسعار والأجور.
والدرب الأحمر هو الصورة الخلفية للشوارع الأثرية السياحية التي يشد الجميع إليها الرحال، خاصة في الليالي الرمضانية، كمنطقة المشهد الحسيني وخان الخليلي.
وبالختام، يذهب رمضان بعد أيام ويعود كل شيء إلى أصله. تئن الشوارع من فقدان رونقه، تحاول استبقاء طيفه في الزينة المعلقة، في صوت الدعاء بالمساجد بالليالي الثلاث الأخيرة لعلها “ليلة القدر”، فتصعد الأماني إلى السماء المفتوحة..
ولكنها ترحل جميعاً وتبدأ سمات الحياة اليومية المعتادة تسحب نفسها سريعاً فتتصدر المشهد بكل تفاصيلها، بينما تذهب أيقونات رمضان الى أماكنها في الخزائن والقلوب، بانتظار موسم آخر.
السفير