ردة إبداعية مصرية


طارق الطيب

تحدث فى مصر الآن ردة إبداعية مخجلة، أصوات تتعالى وتتشدق بالتراث دون أن تتعرف عليه، تربط التراث بالدين فقط وتعتبر الفن بقدرة قادر نقيضاً للأخلاق. تظن أن التراث يعنى الجمود والثبات، ولا تدرى أن التراث العربى الذى لا يعرفونه فيه من الحرية ما يجعلهم لو قرأوه حقاً لنسفوه بالكامل!

تحجيم الصفحات الأدبية فى هذه الحقبة الميمونة على قدم وساق، يرافقه تبديل منهجى للقائمين على الاهتمام بالفن والأدب لتطبيق خططهم فى استبدال هوية توافق مرجعيتهم عن الفن والإبداع بهوية مصر الراسخة، مما يترتب عليه محاربة دور النشر وعداوة الكتاب والكتّاب ومحاولة تعقيم ما هو موجود من فن وأدب.

لم يعد هناك أيسر من تركيب جبة الحرام على المرغوب فى إبعاد وعى الناس عنه، وسوف يؤدى هذا التحول المتبجح إلى منعطف خطير فى تاريخ مصر الأحدث، لتبدأ الآية فى الانقلاب، ويتم تهريب الكتاب الأدبى والفيلم الجيد ومعظم منتجات الأدب والفن إلى مصر سراً، لتصبح مصر القادرة أصلاً على إنتاج الحداثة، ناقلة لها بجدارة.

* لا أدرى من أين تأتى لدى البعض فكرة ربط الفن بالخلاعة والمجون واللا أخلاق والعبث وأخيرا: الحرام! ولا أدرى لماذا يربط البعض الفن بالدين بشكل تنافرى!

لو يتأمل الشخص المعادى للفن -والمهتم بملابسه الأوروبية الحديثة- إلى ثيابه، سيجد أنها تطورت عبر تاريخ طويل من فكرة الستر إلى فكرة «فن الستر»؛ ففكرة الستر بدائية وبسيطة ويمكن بقطعة قماش بسيطة أن نحقق مبدأ الستر، لكنه يقلد ما يراه من وجهة نظره جميلاً من بين بدائل لا نهائية أتاحها الفن له، دون أن يدرى!

ولو نظر لفكرة الطعام تاريخياً من صيد بسبب الجوع وصولاً إلى شكل المطبخ والمطعم الحديث وطرق العرض والتقديم وفنون الطعام والشراب الراقية، لتأكد أنها فن!

ولو نظر لفن العمارة الجميل وشكل المدن الرائعة حول العالم وشوارعها وبيوتها وغرفها وأثاثها، بل تصميم الأجهزة من التليفون حتى السيارة، لتأكد أنها فن!

وهو يختار بين هذه البدائل بكل يسر وسهولة، وهى بدائل من صنع العقل الفنان وليست من نتاج القدرة الشرائية!

* وبينما يتجه العالم نحو حداثة يعرف معناها، يختبرها ويجربها بما يناسب بيئته واحتياجاته وبما يسعده ويخفف عنه. نلجأ نحن فى عالمنا المتضايق إلى تسخيف بل وتحريم الإبداع ولا نتوقف فى الوقت نفسه عن التحديث، دون تفرقة بين الحداثة والتحديث؛ فالحداثة هى نتاج عمل جاد وبحوث وتمويل وتضافر بين العلم والفن لإنتاج منتج يحقق للمقتنى هدف إشباع الحاجة وإشباع فنى جمالى، أما التحديث فهو نقل المنتج المستحدث من بيئته الأصلية إلى بيئة لم تشارك فيه إلا بالاقتناء الجاهز وبقدرة شرائية صماء فحسب.

* الحداثة حرية والإبداع يخرج من معطف الحرية، ومصر قدمت فى العصر الحديث منتجاً جباراً فى الفن والأدب والعلم حفظ لها مكانة لا يشق لها غبار. لم يكن العمود الفقرى لمصر أبداً فى السياسة بل فى الفن. مصر قدمت حداثة محمد عبده والمنفلوطى والعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وسيد درويش وأم كلثوم وعبدالوهاب وسهير القلماوى ومحمود المليجى وعمر الشريف وفاتن حمامة وهدى شعراوى ومحمد الجزار ومحمود سعيد والسنباطى ومحمد رفعت وعبدالباسط عبدالصمد والنقشبندى والباز وزويل ومجدى يعقوب، وقائمة لا يمكن حصرها.

الآن، وعلى يد المغالطين لا تستطيع مصر أن تأخذ حتى خط رجعة فى تراثها الحديث كاستراحة محارب، بل يمحو هؤلاء المتهورون تراثها بحجة العودة إلى التراث!

 

* روائي سوداني مقيم في المانيا

شاهد أيضاً

رِسَالةُ ودٍّ إلى شَاعِرٍ صَديقٍ وَدُود

(ثقافات)   رِسَالةُ ودٍّ إلى شَاعِرٍ صَديقٍ وَدُود د. محمّد محمّد الخطّابي *   أيها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *