كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها؟


ترجمة : مصطفى محمود

خاص
يدعونا بيير بيارد أستاذ الأدب في كتابه “كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها” ألا ننزعج إذا طُلِب منا أن نتحدث عن رأينا في كتاب معين لم نقرأه. فلابد وأننا قد سمعنا عنه وتكونت لدينا فكرة عن محتواه وسياقه العام تكفي لأن ندلي بدلونا في الأمر. فالمؤلف يرى أن الأدب حمل ثقيل ينبغي التخفف منه بالإقلال من القراءة التي هي شيء نسبي وغير محدد. فأنت إذا جلست علي سبيل التجربة لتسجل عناوين الكتب التي قرأتها، فسرعان ما تكتشف أن “القراءة” مصطلح مطاط. نعم، ليس هناك معنى محدد لكلمة القراءة. فهل تسمي عملية استعراض سريع لكتاب غير روائي لاستخراج معلومات تهمك، هل تسميها قراءة؟ وإذا نسيت بعض القصص من مجموعة قصصية فهل أنت قد قرأتها بالفعل؟ وإذا قررت إعادة قراءة رواية مفضلة لديك، فما حجم الأجزاء التي تعود إليها حتي تعتبر أنك أعدت قراءتها؟ وما معنى أنك قرأت كتاباً إذا كنت قد نسيته كله؟ تقول هيلاري مانتل التي قامت بعرض هذا الكتاب للجاردين إنها غير مقتنعة تماماً بهذه التساؤلات المحيرة”.
 يبدأ هذا الكتاب الصغير العجيب الذي يتميز بالذكاء والوعي الذاتي الحاد لـ”بيير بيارد”، ليقفز منه علي عملية فحص القارئ باعتباره مخلوقاً اجتماعياً. فلا ينبغي اعتبار القراءة هي اختيار للعزلة، لأنها وإن كانت تتم بصورة منفردة، إلا أنه في النهاية شخص ما هو الذي يخبرنا ما هي الكتب الجيدة وما هي الكتب السيئة، وما هي الكتب التي ينبغي أن يقرأها كل شخص. وأحياناً نكون قد قرأنا الكثير من النقد والآراء عن كتاب نظن إننا قد قرأناه، فيحل الإجماع مكان الرأي الشخصي. إن تحيزنا وتوقعاتنا تخلق “الكتاب الحاجز”، بمعنى أنه يحجب أي استنتاج آخر يمكن أن نصل إليه حتى قبل أن نبدأ. إننا نبني مكتبة داخلية محمولة وشاملة داخل أنفسنا. إنه التراكم لمثل هذه الكتب الداخلية ـ التي لا تحتاج أن تحمل الكثير من أوجه الشبه مع أصولها ـ فهي التي تصنعنا بالشكل الذي نحن عليه. ولا ينبغي علينا أن نلوم أنفسنا لأننا نسينا ما قد قرأناه. 
فإذا تحولت الأنظار إلينا فجأة عند مناقشة كتاب لم نقرأه أو كتاب نسيناه، هل نشعر بالارتباك؟ يقول بايارد لا. فكل ما نحتاج أن نعرفه هو : أين يقع هذا الكتاب في “السلسلة المتصلة التي تربط كل الكتب مع بعضها البعض”. إن الثرثرة الثقافية للنقاد والمدرسين والزملاء سوف تنير لنا العمل. فالأفكار التي نتلقاها تكفي لإنقاذنا من الحرج. إن ثلاث أو أربع حقائق عن جيمس جويس تكفي لكي نبدو مطمئنين من خلال مناقشة “يوليسيس”. فالنص يكون صحيحاً عن طريق تراكم المعاني الشائعة التي تكون في الأساس ذاتية ولا تحتاج أن تكون متماسكة ولا دقيقة. 
إلا أن الإحراج المتوقع مازال يفترس اطمئنانك. وكبروفيسور للأدب، فإن “بيارد” هو عرضة للإحراج أكثر منا. فهو يقضي حياته في ظلال الكتب التي لم يقرأها. ومن أجل أن يتحدث عنها لقرائه، فقد وظف نظاماً مضحكاً من الاختصارات: ك غ “كتاب غير معروف لي”، ك م “كتاب مررت عليه”، ك س “كتاب سمعت عنه”، ك ن “كتاب نسيته”. كما أن هناك نظاماً لعلامات زائد وناقص، لذلك يمكن أن يأخذ الكتاب + + ك س إذا كان ما سمعه عن الكتاب يسمح له بتقييمه. فهناك راحة جوهرية تكتسب من ترميزه. وتقول هيلاري مانتل إنها لم تقع من قبل تحت ضغط الخجل من عدم القراءة، إلا أنها أحست بالراحة لما وجدت أن رواية “ستيبينوولف” ( الرواية العاشرة لهيرمان هيسه 1927)، وضع عليها المؤلف علامة “كتاب مررت عليه” وعلامة “كتاب نسيته” ـ لأنها كانت ترى في أيامها أن الطلبة يحتفظون بهذا الكتاب علي الرف كحلية أو زينة تعلوها الأتربة، ولم تشاهد أحداً يقرأه. 
إن كتاب بيارد في الحقيقة هو أكثر كثافة وازدحاماً مما توحي به فصوله الأولى. ومن الممكن أن يأخذك إلى قضايا ونقاط كثيرة متفرقة. فوصفه لنفسه علي أنه رجل لا يحب أن يقرأ يمكن أن يؤخذ على أنه نوع من المكر، نظراً لأن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون قد كتبه إلا شخص ما قد اختبر الكثير من النصوص واستوعبها، علي الرغم من أنه قد يميل إلي حفظ الأعمال المتعلقة بنظرية الأدب أكثر من تلك التي تتعلق بممارسته الفعلية. فتأتي نصائحه العملية هزيلة: إذا تورطت في مناقشة كتاب لم تقرأه، فكن غامضاً؛ فإذا كان المؤلف حاضراً فعليك بتهنئته. وكما ترى هيلاري فإن بيارد نظراً لأنه محلل نفسي أيضاً، لذلك فليس من المستغرب في أنه يعتقد في أن الخجل من خوائنا الثقافي، “يرتبط بسيناريوهات عن الطفولة”. وربما يرتبط أيضاً بسيناريوهات عن كونك فرنسيا . فبعيداً عن الناحية الأكاديمية، يميل الشخص البريطاني في المعتاد إلي التباهي بما لم يقرأه. وعند مقابلة المؤلف شخصياً، يقول البريطاني بقسوة: “إنني لم أسمع عنك من قبل”، وأحياناً يضيف: “زوجتي تقرأ، ربما قد سمعت عنك”. 
إن الملاحظة الأكثر جدية عن هذا الكتاب هي أنه كتاب تجاري. فمن خلال القفز برشاقة فيما بين المدارس المختلفة، أخذ بيارد نفسه يعيد بطريقة مازحة اختصار نظريات رد الفعل الجمالي التي أصبحت مألوفة منذ السبعينيات على الرغم من أنها قد نشأت قبل ذلك بكثير. إن القراءة فعل إبداعي؛ فنحن نحول النص بالطريقة التي تعكس موقفنا الثقافي وحقائقنا السيكولوجية؛ إذ إننا ندمج أساطير المؤلف مع أساطيرنا. فالمؤلف يفاوض على المعني ولا يثبته. يقول المؤلف إن نسختي عن دوريت الصغيرة ( رواية لتشارلز ديكنز ) ربما تكون متطابقة من الناحية المادية مع نسختك عنها، لكن مع مرور الزمن بعد قراءتنا أو عدم قراءتنا، فإنهما تنفصلان تماماً عن الكتاب نفسه. فالكاتب ليس هو أفضل مرجعية لكتابه الشخصي، ولا هو بقادر على أن يتحكم في استقبال هذا الكتاب لدى القارئ. فلا نص يمكن التحكم فيه بطريقة تمحو فجواته أو أشياءه غير المحددة، لذلك فنحن لا يمكننا أبداً أن نقرأ بدقة كافية أو شبه كافية للوصول إلى أي بيان موضوعي؛ فكلما استثرنا النص كلما شكلناه أكثر. ونادراً ما نتعمق في دراسة نص من النصوص بدون أن نجد أنه يعكس بصورة إعجازية اهتماماتنا الشخصية؛ فداخل كل كتاب نحن نبحث عن أنفسنا ونجدها. 
وتخلص هيلاري إلى أن الكثير من الفكر الذي يرتكن إليه كتاب بيارد لم يعد قائماً بالفعل؛ فهو في الحقيقة عبارة عن كلاشيهات مختصرة صغيرة، وبالرغم من ذلك فهي لا تفسد الاستمتاع بالقراءة حيث إن أسلوبه بالغ العذوبة، وشخصيته خارقة للعادة، وتملقه للقارئ شديد المهارة. فتوقفه وثرثرته حول كتب لم نقرأها مطلقاً، تجعلنا نظن أنفسنا أننا أعضاء في هيئة من المفسرين أكثر منا جماعة من المثرثرين المهزارين. لكن الكثيرين منا لن يكون لديهم الدافع إلى التفكير حينئذ على الإطلاق. فالقيود الفكرية التي يسعي بيارد أن يحررنا منها سوف تقيد بالفعل عدداً صغيراً جداً ممن سيصبحون كتاباً وتضع أمامهم حاجزاً لأنهم تلقوا ضربة موجعة من القانون الذي أسس له. لكن القراءة الأقل لن تخدمهم؛ فهم بالتأكيد يحتاجون إلى المزيد من القراءة. ومن المشكوك فيه أنه سوف يقنع أي شخص بأن مسح الرواية أو المرور السريع عليها سوف يكون معادلاً لقراءتها (لأنه في الرواية لا يقوم الجزء مقام الكل)، أو يقنعنا بأن عدم القراءة هو الطريق نحو إبداع أكبر. لكنه يكون ساحراً يأسر الألباب حينما يحاول أن يفعل. 
إننا نكون في غاية الحساسية إزاء كل الاحتمالات الناتجة عن كتاب لم نقرأه. لكن ذلك يهون إلى جانب عملية القراءة القاسية غير الضرورية التي تغلق الطريق أمام بعض من تلك الاحتمالات. إن القراءة تلقي بحملها الثقيل فوق أكتافنا وتقيدنا. فهو يقول، إنه بدلاً من السعي إلي الدقة، ينبغي أن نعزز الكتب التي نتحدث عنها من خلال السعي إلى “الترحيب بها في كل أوجه اتحادها”. إن عدم القراءة بالنسبة لبيارد يصبح عملية مغيرة للحياة، مثل التحليل النفسي ذاته. فنحن يجب علينا أن نسعى إلي “التحرر من هم الثقافة” مثلما نسعي إلى التحرر من عقد الذنب الشخصية؛ فالنوعان من الحرية متحالفان. “يتعين على التعليم بأكمله أن يكافح من أجل مساعدة هؤلاء الذين يتلقونه ليحصلوا علي حرية كافية في علاقتهم بأعمال الفن حتي يصبحوا هم أنفسهم كتاباً وفنانين”. تتساءل هيلاري مانتل : هل هذا هو الموقف المعزز للحياة، النقطة النهائية المعصومة من الخطأ للمشروع الإنساني التحرري ، أو إنه ملجأ ؟ فإذا كان الطريق إلي الإبداع يمر عبر مستنقع الجهل، فربما سنغرق في الأنانية وننتهي إلي الصمت: صمت أكثر كآبة من ذلك الصمت الذي يخيم علي مكتبة عامة جيدة التنظيم. 
يتبقي التساؤل الأخير: هل قرأت هيلاري مانتل هذا الكتاب الذي عرضته، أو إنها قد اعتمدت في هذا على نصائح بيير بيارد: “كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها”. 
نقلا : عن الجارديان البريطانية 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *