كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها؟



*ماريا بوبوفا / ترجمة: محمد الضبع

“عدم القراءة لا يعني فقط غياب القراءة، لكنّه نشاط حقيقي قائم بذاته يمكّنك من اتخاذ موقف صارم فيما يتعلّق بالمد الهائل للكتب ويحميك من الغرق فيها. وعلى هذا الأساس فإن عدم القراءة مبدأ يستحق الدفاع عنه وحتى تعليمه.” 

من كتاب (كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها-بيير بيارد)
من النظرة الأولى يبدو عنوان هذا الكتاب (كيف تتحّدث عن كتب لم تقرأها) مخادعًا وساخرًا إلى حد كبير. لكن ماذا عن الكتاب العلمي الذي ألّفه عدد من الأكاديميين بطريقة مفصلة ومملة؟ ماذا عن أوديسة هوميروس التي نقرأ نصفها على مضض، ثم ننساه على الفور؟ ماذا عن آلاف الكتب التي كان من الممكن أن تكون، ويجب أن تكون، وكانت من الأساس عند نقطة ما مجرد مقالة في مجلّة؟ هل يجب أن نقرأ كل هذه الكتب من الغلاف للغلاف لكي نصبح أفرادًا مكتملي الثقافة؟ 
عندما ننظر للأمر بطريقة مغايرة قليلًا نجد أن لدينا: كتبًا قرأناها، كتبًا سمعنا عنها، كتبًا نسيناها وكتبًا لم نقرأها من الأساس. بهذه الطريقة تصبح القراءة أكثر من مجرد حاوية للمعرفة وتتحول لبوصلة توجّه ذواتنا نحو العالم. العالم الذي لا تصبح فيه الكتب محض عناصر معزولة عن بعضها بل نظامًا متماسكًا من الفهم: “كما يعرف المثقفون -ولسوء حظهم، لا يعرف العامة ذلك- أن الثقافة قبل كل شيء متعلقة بالتوجيه. أن تكون مثقفًا هذا لا يحتّم عليك قراءة أي كتاب بعينه، لكنه يحتّم عليك أن تتمكن من العثور على اتجاهك وتحديد الكتب التي تشكّل نظامًا حوله، هذا يجعلك قادرًا على معرفة كل عنصر وعلاقاته داخل النظام.”
ثقافتنا مصنوعة من الالتزامات والمحظورات التي خلقت نظامًا قمعيًا مليئًا بالكذب والرياء حول الكتب التي قرأناها فعلًا وكذبنا يزيد عن الكتاب كلما زادت أهميّته لدى الآخرين. إن الكتاب عنصر داخل مجموعة ضخمة نطلق عليها اسم المكتبة المختارة ولا نحتاج إلى الإحاطة بكل ما فيها لنتمكن من تقدير أحد عناصرها. الخدعة هنا تكمن في معرفة مكان كل كتاب داخل المكتبة، المكان الذي يمنحه المعنى، مثل الكلمة التي تكتسب معناها بسبب علاقتها بالكلمات الأخرى داخل الجملة. وبدلًا من أن يركز الفرد على كتاب بعينه، يجب أن يكون تركيزه على تلك العلاقات والارتباطات. مثل الرجل المحوّل لمسارات سكك الحديد، عليه أن يركز على العلاقات بين القطارات ومواعيد وصولها وانطلاقها أكثر من تركيزه على محتويات أي قاطرة. 
الكتاب كائن غامض لا نستطيع النقاش حوله إلا باستخدام تعبيرات غير دقيقة، كائن تحيط به أحلامنا وأوهامنا دائمًا. كل الكتب التي تناقشنا حولها في حياتنا هي محاولات لإعادة تركيب كتب أولى أصليّة سبقتها، كتب غائرة في أعماق سحيقة أسفل كلماتنا وكلمات غيرنا، والقراءة ليست مجرد عملية نتعرّف خلالها على النص أو نقبض بسببها على معرفة بل هي أيضًا من لحظتها الأولى عملية نسيان لا مفرّ منها.
في الحقيقة نحن لا نتكلم أبدًا عن أيّ كتاب بمفرده بل نُدخل مجموعة كاملة من الكتب إلى النقاش من بوابة عنوان واحد. وفي كل نقاش تبدأ مكتباتنا الداخليّة -التي ولدت وكبرت معنا خلال سنوات من تخزين كتبنا السريّة- بالظهور وصنع العلاقات مع مكتبات الآخرين. في استفزاز يحمل كل أنواع الاحتكاك والصراع. نحن كتبنا المكدّسة داخلنا. شيئًا فشيئًا تجعلنا هذه الكتب ما نحن عليه، ولا يمكن أن تنفصل عنّا كتبنا دون أن تسبب لنا المعاناة. 
وقعتُ في الحب ذات مرة مع شخص نصحني بقراءة رواية سيئة، لأكتشف بعد سلسلة طويلة من الاختيارات الخائبة أننا كنّا غير متفقين بشكل واضح. الكتب التي نحبّها تقدّم لنا رسمًا توضيحيًا لكون كامل نخفيه داخلنا ونتمنى أن ندعو إليه الأشخاص الذين نحبهم. عندما يقرأ العشّاق الكتب ذاتها، فهذا بسبب حالة الانسجام العاطفيّ التي يمرّون بها. ويبدو الأمر واضحًا من بداية العلاقة حين نميل إلى إظهار قدرتنا على مطابقة توقعات مَن نحب حين نجعله يشعر بتطابق مكتباته الداخلية مع مكتباتنا. 
كي نتحدث دون خجل عن الكتب التي لم نقرأها، يجب أن نؤمن أن صدقنا مع أنفسنا أهم من صدقنا مع الآخرين. وهذا يحتاج لقدر كبير من الثقة بالنفس والإيمان بتفرّدها. يجب أن نخلّص أنفسنا من سلسلة المحرّمات التي تثقل كاهل تصورنا عن الكتب. مدارسنا جعلتنا نفكّر في الكتب على أنها أجسام محرّمة اللمس، نشعر بالذنب كلما فكّرنا في تحويلها قليلًا أو تحريك جمودها. 
أنظمة التعليم تفشل بشكل واضح في القيام بواجباتها حيال هذا الأمر. ومايزال الطلاب غير قادرين على المطالبة بحقهم في إعادة اختراع الكتاب. أصابهم الشلل بسبب الاحترام الهائل للنصوص وتحريم تعديلها، يحفظونها عن ظهر قلب ويقتلون خيالهم في أشد أوقات حاجتهم إليه. 
يجب على أنظمة التعليم أن تسعى جاهدة لمساعدة هولاء الذين يستقبلون المعرفة على اكتساب الحرية الكافية في علاقتهم مع الأعمال الأدبية والفنية ليصبحوا كتّابًا وفنانين في المستقبل.
ملاحظة أخيرة: “كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها” ليس إذنًا لإغلاق الكتب ونبذها، بل قصيدة في حب الكتب نغنّيها حتى نحرّك العالم من جديد. 
______
* عن مدونة (معطف فوق سرير العالم) للشاعر والمترجم محمد الضبع

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *