جمال الجلاصي*
واقفا على تخوم اللغات
والكيمياء تنخر عماد السماء
لم تفتني ألوان الحروف
ولم أنس طعمها الحامض في الدم.
واقفا،
أحاول رتق ذرّات الكيان
لو أني فقط أعلم معنى المعنى
وهل تسمّى الأشياء بلا لغة:
( الحلم، اللعنة، الإوز، سلاحف البحر،
الحبر، ارتعاشات النهد الشبق…)
كيف ندعو الله بلا لغة؟
أجب دون فتح القواميس
دع الموتى يرتاحون قليلا:
( المنجنيق،الشرف الرفيع، تفاح الخطيئة، سدنة الكعبة، مغتصبوها)
لا توقظ أحدا،
دعهم يترسّبون في قاع النهر
غدا بعد ملايين السنين سيصبحون نفطا،
أو خرافة…
واقفا،
حتى متى يسكنك الوزن والقافية؟
هل تقفّى رقصة النحلة حين تكتشف الرحيق؟
هل تقفّى رائحة الأرض بعيْد المطر؟
هل يحتمل الوزن نداء اللوز للرياح اللواقح،
وكيف تحلّ الإبل أحجية الصحراء
ولا تختلط عليها الطرق
ولكن الشجر الأخضر كان،
والماء البسيط الساذج خالق كل شيء.
واقفا،
أحاول تحرير الكلام الأوليَّ من المعاني:
الحب لا يعني أن نكون نجوما
وأن نحتاج ليلا كي نضيء
ولا يعني أن نموت دون احتراق
ودون اكتشاف للشهوة والأمنيات.
الحب:ّ أن تهوى الرحلة
لا البحر ولا السفينة
أن تعود المرسى لتكتشف طينا جديدا
وتشتاق أكثر لملح السفر…
كذلك نهد التي أهوى
لا تتقنه اللغات وإن قالت:
( إنه رصيف في الغربة
أصوات بلابل وقد تشيّأت
روح الياسمين في قباب من أثير)…
يظلّ غامضا وقدسيا كفواتح السّور.
واقفا،
أحاول بثّ الوجع في الأشياء
لو أستطيع أمدّ ذراعي
لأقطف زمنا لم أعشه
وأرى غابات ستسمّى مدنا
وأنهارا غدت بركا في أقفاص البنايات،
والقردَ العاري،جدّي،
يغطي جسم الأشياء بالمعاني
ويؤاخي القطط والماس
وسفوح الجبال والخمرة والأساطير
وكان يحلم.
ولا يعلم أن الحلم موصل الأنهار
إلى البحار،
مخرج الأشجار من البذار
وأن الحلم مجداف المراكب
شراع السفائن، فحم القطارات
وجناح الإنسان نحو القمر.
مستترا بالشعر
أحاول هدم ما لا يسكن:
كفى ما صلى القديس للصّليب
وما دقّت في الأرجاء نواقيس.
كفى ما ركع الهندي للكوبرى
وما سجد إفريقي للشجر،
وكفى ما نحتنا من تماثيل لنعبدها…
ونأكلها إذا جعنا.
واقفا،
ولا أرى في الطبيعة إلاّ ما يُرى
هذا زمن حديد، زئبق، شعاع، عطر،
جوع، مشانق، إسفلت، رحيق، رحيل…
هذه أغاني الفرات للفولغا
وألحان الأطلس للألب.
لا تحزن أيها المدفون في مناجم بوليفيا
أو في مخابر الذرّة السرية في طهران
هذه لغة لا تعرفها الملائكة والمترفون
لأنهم لم يبيتوا على ظمأ / عشق
وساعدك الأسود بالفحم
ورئتك المعجونة باليورانيوم
ستذكرها أساطير الأزمنة القادمة
لك أن تفرح فهذا زمن نبيّ معجزاته:
( المخابر، القلب الاصطناعي،
مشابك الشعر،غرف الإنعاش، أحمر الشفاه،
أضواء السيارات، الملاهي..)
لك أن تفرح وأن تعلم
أنّ الطين إله،
وأنّ الزنوج ثلج آخر في اللغة الجديدة
وأنّ الشعر تصوّف العلم
أسئلة المحاريث/ إجابات الأرض
قبـر الصدفـة / جنازة الخرافة
ورحـم الكيمـياء/الفَراش،
والخطايا المجيدة
واقفا،
أستأتي الأجنّة والبراعم والخلايا
لو كان لي نزرع الأكفان أرحاما
ولو رحلنا ولم نعد
سيعود الربيع وأبناؤنا والبذور
يسيّجون حدود الكون باللغة وبالياسمين
يصنعون أمطارهم غمامة، غمامة،
يعرفون البيت من نعناعه
وينام تحت أحلامهم المستحيل.