أدونيس
أمسِ، في طريقي إلى ساحة البرج، سمعتُ
الرّبيعَ يسألُ يوسفَ جدَّه الأوّل:
«ماذا أفعلُ لكي أخرجَ
من «غَيابَةِ الجبّ»؟
«ماذا أفعل، أنا الكوكبَ الأكثرُ تشعُّثاً في سماء التاريخ؟»
وسمعتُ يوسفَ نفسه يجيبه:
أصْغِ أيّها القريبُ إلى الرّبيع البعيد،
أصغِ إلى أبعد نقطةٍ في العالم: نفسكَ.
وفي طريقك مرّةً ثانيةً إلى ساحة البرج، تعلّم كيف تُصغي إلى قيثار الموت،
لكي تُحسنَ السّماعَ إلى وتر الحياة.
لا تنسَ، في أثناء ذلك، أن تتأمّل في الأفق الذي يجوع
ولا يجد ما يأكله،
إلاّ دخاناً يتصاعَد من رئات البشر الجائعين.
الآن أرى حولي
كلماتٍ شاردة في طرفٍ من أطراف السّاحة،
تزحف متوكِّئةً على عصا الغُبار في طرفٍ آخر،
لكي تحاول أن تصعد في الأطراف الباقية.
أهي أضغاثُ أفكارٍ
تهبط واحدةً واحدةً إلى قبورها في جحيم أحشائي؟
وسمعتُ نفسي تصرخ صامتةً:
من أين جئتِ أيّتها الثقافة في هذا العالم حولي؟
ولماذا يبدو فيك جسمُ الكون
دون سُرَّةٍ، ودون يدين وقدَمَين؟
ولماذا تبدو الكواكبُ نفسها عجائزَ تُحتَضَر.
ولماذا يبدو الغائبُ في الحياة العربيّة،
كأنّه، هو وحده، الحاضر؟
*
التقيتُ شاعراً في هذه الساحة قال إنه تتلمَذ على شاعرٍ
عاصَرَ الخنساء، وعرف من شعره،
أنّه لم يرها وجهاً لوجهٍ أبداً،
ولم يرَ أخاها صخراً،
غيرَ أنّه كان يرى كلّ يومٍ، دموعها تسيل
على خدِّ الصّحراء.
*
رقصُ قنابلَ تتجمّع،
تغنّيها وتهتف لها
قنابلُ تنشطر.
مع ذلك لا يكفي غبارُ العالم كلِّه
لكي يملأ جرّةً صغيرةً في بيتِ الرّيح.
*
سألتني ساحةُ البرج غاضبةً:
من قال لك إنّ للحرّيّة دائماً ملجأً تلوذُ بهِ؟
ومَنْ قال لك إنّ الحياة، في العالم العربيّ هي لكي نحيا؟
بلى، تبدو الأرض العربية كأنّها مجرّد حقولٍ لزراعة القبور.
بلى، تبدو الحياةُ العربيّة كأنّها سلسلةُ «أعراسٍ» للخروج من سجنٍ إلى سجنٍ آخر، ولاستبدال نيرٍ بنيرٍ آخر.
*
بلدانٌ منذورةٌ للمتاحف،
وللموت الذي هو، وحده، «صاحبُ الزّمان»
في السِّلْم تمتلئ بالأوبئة،
وفي الحرب تمتلئ بالجُثَث.
مسرحٌ:
حاضرٌ – مناجِلُ لحصادِ الرّؤوس.
مستقبلٌ قشٌّ.
*
كيف يحدث أن تتمحور الحياةُ والفكرُ في شعبٍ أو جماعةٍ حول ما لم يكُنْ،
وما لا يكونُ أصلاً،
وما لن يكون أبداً؟
«اقرأِ المعرّيّ إذا أحببتَ أن تعرفَ الجواب»:
قالت ساحةُ البرج.
*
عصرٌ – أصبحت فيه الحقيقة مضطرَّةً
أن تعبر على جسر المَجاز
إذا أرادت أن تصل إلى الواقع.
*
الوقت؟ ما الفرق بين المسرح – الأمْس،
والمسرح – الآن، إذا استثنينا أسماءَ «الممثّلين» و «مواهبهم»؟
الوقت هو الوقت. لغاتٌ وأصواتٌ متباعدة متقاربة، متخاصمة متآخية، تبعاً للحالة ووفقاً للغُنْم والغُرْم. أشباحٌ. أبجديّة رَمْل. ثلجٌ يتساقط من غيومٍ آليّة. القمر مُقعَدٌ، والنّجومُ تئنّ.
والوقتُ هو الوقْت.
«البكاءُ وحده يفتح لي ذراعيه»، يغنّي شبحٌ يخاف من أن يذكر حتّى اسمه. لا يريد أن يعلن هويّته. صَغُرَتِ الهويّةُ وهانت، حتى أصبحت تُختَزَل بالاسم!
الوقت؟
إنّه العصر، تترك فيه يدُ المعنى مكانها لأصابعَ من النّار.
*
يطوف الموتُ في الشوارع العربيّة كلّ يومٍ،
لكي يعرف مَنْ وُلِد، ومَن سيولد،
ولكي يتعرّف على أولئك الذين تفتح لهم الحياةُ ذراعَيها.
هو وحده، الرّقيب العربيّ الحارسُ الذي لا ينام.
*
قالت ساحةُ البرج:
اسألْ عشّاقَ السّماء وكواكبَها،
مَن منكم رأى كوكباً، ولو مرّةً واحدةً،
يسير على ضفّةِ نهرٍ،
أو على طرف غابةٍ،
أو جالساً تحت شجرة،
أو يأخذ بيد إنسانٍ ضلّ طريقَه؟
وقالت:
يا أهلَ الزّبد، ها هي حياتُكم «تذهبُ جُفاءً».
*
بقعةُ دمٍ على وجه الفَجْر.
أنتَ، الممثِّل الذي يدخل الآن، يقتضي دورُك على المسرح أن يكون رأسُك تفّاحةً، وأن يكون جسمُك أفعى. لا مكانَ هنا إلآّ لدُمى تجلس نائمةً على مقاعد المسرح. بالإسفلت خُتِمَت أفواهها جميعاً.
بين المقاعدِ أقفاصٌ محروسةٌ تختبئ فيها الذّاكرة وذكرياتُها. حولها أجراسٌ خفيّةٌ تغيِّر الصّوتَ والصّدى، وتغيِّر الصّمت.
نفاياتٌ ذرّيّةٌ تتنزّه بين المقاعد.
إنّه العصر – بساتينُ لا تُثمرُ فيها غيرُ الرؤوس المقطوعة.
*
أنا الرّاوية
بدأتُ أخاف من الكلام. بدأت أخاف من الصّمت.
*
الرّسالة التي كتبها ذلك الكوكب العاشق إلى ظلمة الأرض، لا تزالُ مختومةً.
لا يريد أحدٌ أن يراها. لا يريد أحدٌ أن يفتحها. لا يريد أحدٌ أن يقرأها.
في أيّة مقبرةٍ على الأرض، ترك هذا الكوكبُ أنقاضه؟
لا أحد يعرف – اللّهمّ،
إلاّ ذلك الملقِّن البارع وراء السّتار، والذي يُسَمّى الفيروس الأوّل.
*
الأفقُ دمٌ، وجسمي تموُّجٌ فيه.
كلّا، يا ساحةَ البرج، لن أقول لك اسمي.
ليس قرصاً منبِّهاً، ولا قرصاً مخدِّراً،
أشكو؟ كلّا. لمن، ولماذا؟
يكفيني هذا الصراعُ الفاتن مع الشّمس. وما أجملَ تلك البلبلة التي تبدّدني في أبجديّة الفضاء.
_____
*الحياة