مدينة الخشب


* وليد بن أحمد

خاص- ( ثقافات )

لم ينجح دفء فراشي في إغرائي بالنوم هذا الصباح. طلبت قهوة ساخنة من خدمة الغرف، ثم انهمكت في احتسائها أمام النافذة الكبيرة.
إن أول أيام أكتوبر هذا العام تومئ بشتاء قارص في ستوكهولم. نفدت قهوتي وأنا أنتظر أن ترسل الشمس بعضا من دفئها من وراء الغيوم المتلبدة. ليست هذه أول زياراتي الخريفية لمدينة “الفيكينغ” فقد دأبت صحيفتي الغراء منذ عقد من الزمن على إيفادي لتغطية حفل جوائزالأكاديمية السويدية. حللت البارحة بفندقي المعتاد وفي جرابي تسع نوبل للآداب. لم تعد المدينة الباردة تثير في رهبة السنوات الأولى ولم أعد أحفل بتجهم السماء. 
اعتدت أيضا مجالسة العشرات من صحافي الملاحق الثقافية من كل البلدان وهم يقاسمونني نفس الفندق. أمر واحد ما زال يدفعني قدما رغم هذه الألفة الرتيبة. لا أحد يستطيع أن يغالب الإثارة والغموض اللذين يلفان هوية الفائز حتى آخر رمق من المسابقة. نفدت القهوة ولم أدخن سيجارة واحدة. تبا لهؤلاء السويديين وأبنيتهم الخشبية. الأرضية من خشب، السقف من خشب، الجدران من خشب، خشب في كل مكان. ما زلت أذكر كيف أشعلت لفافة لذيذة أول يوم حللت فيه بهذا الفندق منذ سنوات خلت. لحظتها لم أفهم كيف وجدت نفسي أركض في الرواق و نزلاء الفندق وكيف خرج الجميع إلى باحة النزل شبه عراة. خوف المرء من النار غريزي فكيف لا يخافون النار الخالدة. يومها فهمت أن دخان سيجارتي أيقظ إنذار حريق خاطئ ملأ القلوب رعبا. لم يطل الأمر قبل أن يكتشفوا أنني الفاعل.
ذلك العمل الشنيع قدمني لمعشر رواد الفندق من كتاب ونقاد وملاحق ثقافية أيسر مما كان سيقدمني لساني أو سيرتي الذاتية. كلما ارتدت الحانة رمتني عيونهم بنظرات كنت أرى فيها مزيجا عجيبا من الخوف والازدراء من هذا العربي مشعل الحرائق ومقوض الحضارات. لم يدركوا في ذلك الوقت أني قدمت لمقارعتهم في عقر دارهم. منذ فاز صاحب “اللص والكلاب” بالجائزة الكبرى هنا دأبت على الحضور أنازع البرد والحقد ورائحة الخشب المقززة وكلي ثقة أن الجائزة ستعرف طريقها إلينا مرات أخرى. 
اليوم يصل موفد جريدة “الأخبار” البيروتية. سنصبح عربيين اثنين ولن تضيرنا نظراتهم من هنا فصاعدا.سندخن النارجيلة الزكية في المقهى التركي الوحيد في المدينة وننعم بعبق تونس، بيروت أو القاهرة. كم أحن إلى قيظنا. 
تركت المصعد عمدا ونزلت على السلالم لعلي أبث بعض الدفء في أوصالي. أرجو أن يكون ركب “باسم” قد حل. عبرت البهو الكبير أبحث عن منضدة قرب نافذة “اللوبي” الواسعة لأكون أول من يستقبل شمس ستوكهولم الباهتة. بدا بهو الفندق مكتظا بشخوص غير مألوفين مسكونين بنشاط مريب. عندما اتخذت مقعدا، نهض جلساء المقاعد المجاورة بغتة. لم أبالي أيضا بنظرات الجميع ترمقني بشماتة واحتقار. انتظرت الساقي طويلا قبل أن يأتي نحوي يمشي على غير عادته بخطوات ثعبان. مدني بقهوة منعشة ثم مد أصابع مرتعشة تحوي ورقة مطوية بعناية قد خط عليها مرسلها بعربية ركيكة:” إلى عناية السيد ماجد. لا تغادر الفندق تحت أي ظرف. ب. م. س.”.
لم تستفزني الرسالة بقدر حيرتي التي أثارتها الحروف المختصرة “ب. م. س”. هل يكون “باسم” البيروتي قد تأخر في المطار فأرادني أن أنتظره. والميم ساء ماذا تعني ؟ فزميلي اسمه “باسم حبش”. لم تطل حيرتي فقد جاءني الجواب سريعا على شكل ثلة من الدرك السويدي أحاطوا بي وقد خيط على زنودهم ما معناه” بوليس منطقة ستوكهولم”. أجفلتُ لوهلةٍ لأن خفرهم أيضا كأنما قُد من خشب. منحني أحدهم ابتسامة بدا واضحا أنه تمرن عليها منذ ساعات الصباح الأولى ثم ابتدرني “اعذرنا. ﻻ أحد يتكلم العبرية عفوا العربية. أعني لا نستعمل العربية في نظامنا القضائي”، فأجبته بانجليزية محترمة “ﻻ يهم، ما الخطب؟” هنا اتخذ لهجة آمرة قائلا ” اصعد إلى غرفتك واحضر جواز سفرك. سنقوم بنزهة قصيرة. لا تنس معطفك فالجو منعش قليلا. آه كدت أنسى، المكان محاصر”. ثم أومأ إلى مساعده” لا داعي للأصفاد”. 
خارجا، وجدت في انتظاري سيارة “فولفو” بألوان زرقاء وصفراء فاقعة تحمل نفس الشعار الذي يحمله قمصان الأعوان، ركبتها صاغرا وعقلي يعمل في سرعة لعلي أجد مبررا لهذا الموقف السخيف، خاصة أمام زملائي ونزلاء الفندق. بعد مسافة غير بعيدة، ولجت مبنى فخما لا يدل على أنه مخفر شرطة سوى بطاقة زجاجية علقت بعناية إلى جانب بابه. 
أجلسني الدرك إلى أريكة من الجلد الأسود الفاخر وسألوني عن الشراب الذي أنوي تناوله. حدقت فيهم ببلاهة من يعرف ضيافة البوليس في أوطاننا وخمنت من إكرام وفادتي أن جرمي هين. قدموا لي كوب شكلاطة ساخن وطلبوا مني انتظار المحقق “اكستروم”، فالساعة لم تتجاوز التاسعة صباحا. عرفت بمقدم المحقق لما أدخلوني غرفة مظلمة عارية سوى من منضدة ومرآة عريضة على الجدار. لم يخب حدسي فقد دخل رجل أشقر طويل بارد القسمات مشمرا ذراعيه وسألني في لا مبالاة ” إذن منصف ماجد؟” 
-“أظن ذلك”
-“ماذا تفعل في ستوكهولم؟” 
– “لا أظنني سائحا في مثل هذا الوقت من العام”. 
-“أرجو أن تمدني بإجابات واضحة”
-“ليس قبل أن أعرف سبب تشريفي بهذه الضيافة”، رددت في تحد أكبر. 
لم يجبني وإنما فتح الباب قائلا “تفضل سيد اكستروم. هو لك الآن”. ولج الغرفة رجل ثان ذو طول خرافي ذكرني بإلههم “تور” وقال:
” شكرا هانز. من تظنه سيربح الجائزة الكبرى هذا العام؟” 
لم أدر كيف خمنت أن السؤال موجه لي، لكني أجبت بانفعال “أتطرح سؤالا مماثلا على مثقف عربي؟ بالطبع سيفوز شاعرنا العظيم”. لم تنجح ملامح المحقق القاسية في إخفاء شبه ابتسامة وهو يستنكر” شاعركم؟ منذ متى أصبحتم تستعملون ضمير الجمع؟ ثم أرجو أن تكون موضوعيا أكثر”. يبدو أني ابتلعت الطعم وأنا أرد بانفعال أكبر” و من تريد غير إله الشعر عند العرب متوجا بالجائزة؟” 
– الياباني مثلا 
– ذلك “الساموراي” الشاحب؟ 
– أهلا بالشتائم. 
– لن يتوج لمجرد أنه نزه “كافكا على الشاطئ” أو زعم أن “الضفدع ينقذ طوكيو”. لن يبلغ موهبة إلهنا وقصائده “الخمس”. 
لم يبد اهتماما على وجهه وهو يضيف متحديا ” والفرنسي؟ كيف ستعيب شعبيته الواسعة؟ لقد انتصر لقضايا السلام” .
– ذلك الأرعن يهودي الجذور. إنه على القائمة لأن حبر قلمه سال دموعا على المحرقة والمحتشدات. 
تقطب وجه المحقق وتحرك مساعده في مقعده بعصبية مفرطة 
-عدنا مجددا للشتائم. نحن نسجل كل حرف. 
قال ذلك والتفت غريزيا إلى المرآة تزين جدارا بدا لي خشبيا بدوره. أطرق “اكستروم” لبرهة ثم سألني باهتمام ” لمَ تظن أن شاعركم العربي الهمام سيفوز هذا العام؟ ولا تحدثني عن موهبته و إبداعه”. لم أفكر مطلقا عندما أجبته باندفاع ” شاعرنا يصل العين ولا يشرب. من سنوات وهو مشترك ضمن القائمة القصيرة”. لم يبد على المحقق الاقتناع ونظر إلي نظرة تبغي المزيد فأردفت بتهور “سيفوز فارسنا هذا العام رغم الداء والأعداء”. لحظتها لم أفهم سر بريق النظرة الظافرة التي تبادلها المحقق مع مساعده وهو يرد بتهكم مشوب بحزم ” ستحجب الجائزة الكبرى هذا العام فقد وجدنا قنبلة شديدة التفجير مخبأة بعناية في جناح الفرنسي بالفندق”. 
ما زلت أذكر كيف سطعت الأضواء في الحجرة المعتمة بغتة وكيف أسدل المحقق كمي قميصه في ارتياح وهو يومئ للمرآة. أطبقت الأصفاد الحديدية القوية على معصمي لكنني شعرت بملمسها البارد يستحيل شريطا حريريا دافئا فلم أعد أطيق رائحة الخشب. 

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *