رواية تستنهض الإنسان للوقوف ضد هيمنة المنظومة الرقمية

(ثقافات)

أسطورة اللوتس الأخيرة  لرائد سمّور

رواية تستنهض الإنسان للوقوف ضد هيمنة المنظومة الرقمية

يحيى القيسي*

لم أعرف الكاتب رائد سمور أو أقرأ له من قبل، ولم ألتقه إلا خلال فعاليات مؤتمر الرواية الأردنية الحادي عشر في جامعة اليرموك بداية شهر نوفمبر الجاري 2025، إذ قدّمت الناقدة د. شذى فاعور دراسة معمقة عن رواية له، إضافة إلى تناولها رواية لي من قبيل المقاربة بين الماورائيات التي أتخصص بها، وما بعد الرقميّات التي هي مجال كتابة سمور بحثاً وسرداً أدبياً، وقد أهداني المؤلف – مشكوراً- روايتيه” أسطورة اللوتس الأخيرة – ورقة لا تبتل” و” فجر في غياب القمر – الكود صفر”، حيث قرأت روايته الأولى، وها أنذا أتناولها هنا بشكل مبتسر ببعض السطور كقارىء متفحّص من أجل التعريف بها، وتزجية تحية إلى كاتبها الذي بذل فيها جهداً واضحاً صياغة ولغة وفكراً.

الرواية تبدأ من غلافها حيث صورة لزهرة لوتس، ووجه خفي باهت لفتاة وسط اللون الأسود للغلاف القاتم، ولا توجد دار نشر محددة للكتاب بل كما يبدو أنّ المؤلف يريد أن يصدر منشوراته لوحده ويوزعها أيضا بطريقته، في زمن أصبح النشر فيه مزعجاً ومكلفاً.

على الغلاف الأخير نجد معلومات قليلة عن الرواية، وصورة لها دلالاتها للمؤلف حيث تظهر عين واحدة له، ويخفي العين الأخرى، وبالطبع لا شيء متروك للصدفة عند شخص خبير بالأمن السيبراني مثله، وأتذكر في هذه العجالة أنني شاهدته أكثر من مرة في برامج تلفزية للحديث عن بعض المسائل التقنية المتخصصة بأمن المعلومات، وربما تكون الصورة الشخصية للمؤلف بهذا الشكل لتشير إلى الجانب المشرق والواضح للإنسان، والجانب المظلم والخفي له في الوقت نفسه، وهذا ما تطرحه الرواية أيضاً.

تقوم فكرة الرواية على وجود مجتمع بشري محكوم برقابة التكنولوجيا الرقمية الفائقة، وكل شيء في هذا المجتمع محسوب بدقة ويقاس رقمياً عبر أجهزة حسّاسة ومعقدة، لكن الروح البشرية غير قابلة لأن تكون تحت رحمة هذه الأجهزة مهما تم تغييبها أو قمع أصحابها، فلا بد أن تظهر وسط كل هذه العتمة الفائقة، ولو بعد حين، لهذا تبدو الفتاة هيفاء مثل زهرة لوتس فوق الماء لا تتأثر بالطين، ولا تبتل أيضاً، وهذا الاختلاف هو نوع من المقاومة التي تبديها الفتاة بهدوء للتخلص من المنظومة الذكية والسلبية التي تحول الإنسان إلى شيء أو كائن رقمي قابل للقياس حتى بانفعالاته وأحاسيسه.

فكرة الرواية مهمة جدا وهي رواية مستقبلية إذ يؤشر فيها صاحبها على ما سيجري للبشر في قادم الأيام بعد وصول التقنيات الرقمية إلى مستويات فائقة، وحلول الروبوتات، وزرع الشرائح لبعض البشر من أجل مراقبتهم بدقة، لا بل ورصد احلامهم، ونوازعهم للتعبير عن الاختلاف وسط قطيع متشابه يتحرك مثل الآلات.

لا أدري لم تذكرت السلسلة البريطانية التلفزية الشهيرة على “نيتفليكس ” مرآة سوداء،  Black Mirror وما فيها من ديستويبا مرعبة لسيطرة المنظومة الرقمية والذكاء الاصطناعي على المجتمعات البشرية في قادم الأيام بل بعض هذه الخطط الشريرة قابلة للتنفيذ الآن، ورغم أنّ رواية سمور مختلفة في تقنياتها السردية ورؤيتها للأمر وطريقة تناولها إلا أنّ دق ناقوس الخطر من القادم هو ما يجمع بين الأمرين.

المؤلف رائد سمّور يوظف خبراته في عالم الحاسوب والتقنيات الرقمية في هذه الرواية، فهناك مصطلحات بدأت بالظهور وتبدو مترجمة من الانجليزية فهم من اخترع هذه المصطلحات مثل “البرمجة العكسية”، مكتب التوجيه الخوارزمي، المحتوى العاطفي، الصدق الاصطناعي، تصحيح آلي فوري، مقاومة القياس التشاركي،…الخ لا بل هناك معرفة واضحة لدى الكاتب لتوظيف خبراته في علم النفس وإدارة الأزمات، والمعالجة السلوكية في ثنايا هذه الرواية وشخصياتها وأحداثها.

يقول سمور في روايته ” في أحد اجتماعات مركز الانضباط العاطفي قال أحد المسؤولين:

لا نعرف كيف نقيسهم..إنهم لا ينكرون النظام، ولا يعادونه، فقط لا يتأثرون به.”. ص 91

ذكرتني هذه العبارات بأحد الأصدقاء الأدباء الأردنيين الذين رحلوا، وهو إبراهيم العجلوني إذ قال لي ذات يوم: إن مشكلة المثقف غير المنتمي لحزب أو جماعة ما صعبة عند رجال الأمن إذ لا يوجد “ليبل” أو تصنيف له عندهم، فإن كان إخوانياً أو بعثياً أو شيوعياً مثلاً يمكن الرجوع إلى رئيس حزبه، ومعرفة كل شيء عنه، أما الشخص المستقل الطليق غير المصنف في خانة ما حتى لو كان يحب الوطن والنظام فإن هذا لا يكفي وبالتالي يسبب لهم الإزعاج”. أي هو غير قابل للقياس كما أشار سمور وبالتالي لا يمكن السيطرة على ردود فعله ومعرفة هواجسه وخططه المستقبلية، وهذا يسبب إرباكاً لأي نظام يسير بشكل خطي ومبرمج بشكل دقيق.

“من لا يبتل لا يمسك

من لا يبتل لا يعاد توجيهه

من لا يبتل لا يعاد استخدامه كبيانات” ص 90

إذن المطلوب أن تنغمس ورقة اللوتس في الطين وتتشربه تماماً، وتشبع من الماء المقدم لها وتنسجم مع ذاتها، ولا تحاول أن تعلو فوق الماء وتتفرد، ويكون لها إيقاعها الخاص بها، فهذا غير مقبول في عالم الغد الديستويبي الخطير.

رواية “أسطورة اللوتس الأخيرة” التي تستنهض إنسانية هيفاء والفتى جاد،  من أجل المقاومة الناعمة عبر عدم الاندماج مع القطيع الرقمي تؤشر على موهبة في قراءة المستقبل، والتنبيه للخطر المقبل، وتوظيف السرد الروائي المختزل والمكثف، حيث اللغة التي تستفيد من المفردات الجديدة التي غزت العالم في مجال الرقمنة، وهي تستحق التأمل والقراءة النقدية المعمقة والبحث، لأنها باختصار تنتمي إلى روايات الحقبة الجديدة فهي غير معنية بالجوانب السياسية المباشرة، أو الاجتماعية التقليدية، أو القصص التي مللناها عن الغرام والانتقام بل لها حقلها السردي والمعرفي الذي تحفر فيه بهدوء، وما كتبته هنا مجرد تحية عابرة، وإشارة مبتسرة، ودعوة للمتلقي المختلف للولوج في تجربة مغايرة وجديدة، أو مغامرة للقراءة الصعبة.

  • روائي وباحث أردني

شاهد أيضاً

ليلى أبو العلا : بين الالتزام وتوصيل الفكرة وبين طغيان المقصد الجمالي على الأيديولوجي

ليلى أبو العلا  بين الالتزام وتوصيل الفكرة وبين طغيان المقصد الجمالي على الأيديولوجي عزالدين ميرغني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *