حنين

حنين

لطيفة المقبلي

تداعي/ عيد ميلاد

كان عيد ميلاد  حزينا هاتف من بعيد يرن وسط ضوضاء العيد .بكاء وشوق  ومعايدة وصمت يختنق بين العبرات . ثوب أحمر جميل أثارغيرة الصغيرات إدعت الفرح واللامبلاة والسعادة.

لقد  صنعته لي أمي تقول لعيون الأطفال الحائرة والمنبهرة بحلتها الجميلة .

سؤال يوترها من جديد,  قبل أن ترحل ؟

وكأنها لا تريد أن تعترف بالرحيل المؤلم الذي يكون في كل مرة على حين غرة ويتركها تلهث وراء سيارة حد البكاء في زاوية مظلمة .

  • لا هي لم ترحل ستعود ستعود لي قريبا بهدايا كثيرة وأجمل من هذا الثوب

  • في تونس هناك أشياء جميلة فساتين وألعاب وحلوى. وعدتني أمي بمرافقتها في العطلة الصيفية.

صوت من بعيد يقول : لماذا أمك تذهب كثيرا إلى تونس مما تشكو.

أحست بنبرة سخرية ونية خبيثة من السؤال.

للأطفال أيضا نوايا سيئة وألسنة تتعلم أن تجرح قلوب الأطفال الأخرين.

الأمر لا يعنيك هي لا تشكو من شيء

هي لم تقصد  شيئا يا حنين  هيا فلنرقص

لا أريد ذلك أرقصوا وحدكم .

إستلقت على أريكة طويلة  في غرفة فارغة إلا من  صخب هواجسها و أفكارها وذكرياتها. داعبت خصلات شعرها الطويل  ونظرت إلى السقف الأبيض المندهش يناديها في بياضه لتملأه سواد وكلمات , أرادت أن تتذكر, ربما يساعدها البياض على التذكر… نظرت و نظرت حتى إشتهت البياض وأرادت أن تصعد إليه وترمي بكيانها بين أحضانه ربما يتشتت جسدها كلمات ويتماهى سقف الغرفة مع سقف ذاكرتها العميقة التي تأبى التكشف على روحها المعذبة والتائهة .

 تمسكت بالنظر إلى بياض السقف حتى أغمي عليها وهي تعاند البياض الأبي العصي على البوح .. لم ترى صورا ولم ترى كلمات لم ترى وجوها كل الذي رأته بياض بأبواب موصدة. بياض يسخر من طفولتها من سذاجتها. بياض يسقطها على الأرض وتبقى معلقة في زاوية منفرجة  بساقين ناعمتين في ثوب شفاف أبيض ساق فوق الأريكة تعاند سماء البياض وساق على الأرض تحقق توازن رأس ارتطم على أرض لا تعترف إلا بقانون الجاذبية. ظلت على تلك الحال وقتا طويلا في وضعية مائلة لا تعرف منتهاها . مر الوقت لا سريعا ولا طويلا تجمدت الدماء في عروقها ..

 حتى إستلذ ت الامروطاب لها المكوث في الحال المائل. هل سيتوقف العالم إن بقيت في الوضعية المائلة هل ستتجمد وتصبح تمثال بعد أن يتوقف جريان الدم في جسمها . تذكرت برج إبيزا المائل . فكرت  في الامر بنشوة .. ما أجمل هذا الإسم : تمثال حنين المائل ..ضحكت قهقهات مجنونة وقالت : حسنا سأتابع يبدو أني بصدد الدخول إلى التاريخ أو بصدد الإنتحار إذا ما إستمريت على هذا الحال .. بدأت تشرع بالبرد شيئا فشيئا و أحست بضيق تنفس وبدوار ترتفع وتيرته شيئا فشيئا. أرادت أن تحصل على مرآة لترى ملامحها وتعابير وجهها.. فكرت لو كان بجانبها مصور فوتوغرافي محترف لأقتنص هذه الصور التاريخية وهي تجرب طريقة الإنتحار المائلة.. الأكيد أنه لم يسبقها في ذلك أحدا تخاطب نفسها و صور الموناليزا الشهيرة تتداعى صورا متتالية بين عينيها الجاحظتين.. لقد فكرت أن الصور التي كان يفترض أن تأخذ لها وهي تحارب الموت المائل كانت لتكون أعظم وأغرب من صور الموناليزا ذات الإبتسامة التي طالما إعتبرتها خبيثة. قفزت فجأة بحرارة الخوف من الموت مجددا إلى الأريكة. صاحت بقوة وعاد رجع صدى صوتها في الغرفة مدويا :

ماذا يريد مني هذا الطبيب الأخرق , لماذا يحجزني في هذه الغرفة منذ أيام أيظنني مجنونة…مسكين يظن أنني سأتكلم مثلما يفعل كل هؤلاء المجانين في الأفلام والمسلسلات    يقول لي ببرودة أعصاب سمجة حاولي أن تتذكري يا حنين وعندما تتذكرين رني هذا الجرس سأحظر فورا للإستماع إليك…

مسكين يظن أنه يقوم بمهمته كطبيب ماهر لا يعرف الذئبة التي أمامه.. يمكنني أن أدعي الجنون ويمكنني أن أدعي التوازن.. لن يعرف من أنا مهما قرأ من كتب ودرس من نظريات.

أمسكت رأسها من جديد صداع يخترقها من جديد أصوات قديمة تنخرها بلا هوادة .. هيا أرقصي ..

لا أستطيع الرقص

إنه عيد ميلادك فلترقصي

بلا هوادة ولت وجهها خارج غرفة الإحتفال. توجهت إلى غرفة أمها نظرت إلى نفسها في المرأة  وبدأت  تتمايل بصعوبة   تريد ان تلين عضلاته الفتية وتستطيع الرقص  لكنها انفجرت ببكاء أمام المرأة بحرقة.. نظرت إلى دموعها تنسكب ساخنة.. تحسست أنوثتها الصغيرة في ذلك الثوب الأحمر الجميل.. وفي لحظات رسمت ملامحها الحادة من جديد .. مسحت دموعها  وعادت إلى غرفة الاحتفال …لكنها لم ترقص …

لقد هربت مني ذات صباح وككل مرة تفعلها ذات صباح. كل  المؤشرات تدل أنها راحلة ..الحقائب ..قدوم جدي وجدتي.. صوت سيارة جدي وأزيز محركها القديم يستعد للإقلاع… جيئته وذهابه  يسقي سيارته ليترات من الماء.. وكالعادة تقول لي سننتظرك : إذهبي وإشتري علبة حليب لنعد فطور الصباح.

أصدقها أذهب بلا هوادة أعرف أنها ستخدعني ككل مرة لكني أمني النفس أني  سأتمكن من اللحاق بها  ومنعها. تذهب السيارة بعيد أراها تبتعد في الطريق أعجز عن اللحاق بها أصيح وأصيح أنهار في الطريق أنثني على ركبتي الصغيرتين وابكي طويلا في ذلك الصباح الباكر  لا ينتبه إلى الكثير من المارة ويشفق علي بعض الأقارب والجيران وينهرونني للعودة إلى البيت.

اعود إلى البيت ألقي  علبة الحليب على الارض

تصيح جدتي : ويحك علبة الحليب, تعالي سأعد لك الفطور

لقد ذهبت كذبت علي  ورحلت ككل مرة لماذا ترسلني في كل مرة لأشتري الحليب  اكره الحليب لن أشربه بعد الان ..أريد أمي أين ذهبت لماذا تتركني وحيدة

أنا أمك أيضا

لست أمي ..أتركها وأهرع إلى غرفتي أنزوي في

ركن مظلم ,ابكي بحرقة وأنوح….

 -تونس

شاهد أيضاً

إنّه نصف خيمة: قصيدة جديدة من (زليخة أبو ريشة)

(ثقافات)   إنّه نصف خيمة زليخة أبو ريشة   إنه نصفُ خيمةٍ نصفُ سيارةٍ تعبر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *