عبد الكريم الساعدي *
( ثقافات )
عدتُ بلا موعدٍ أحملُ شوقي الهائم بغفوة الندى إلى نهرٍ ارتدتْ ضفتُهُ حلّة أيامنا الجميلة ،وليالٍ تلألأتْ بالشجون والرؤى والشوق ، عدتُ اليه أحمل تشوهات سنين الفراق، وانتظرتُ ساعاتٍ وسط عتمة دهشة، أذهلتني فأسقطتْ لهفتي أمام عراء النهر ، لم أرَ غير ملامحي، لا بروقَ لا قلوب مسافرة ، القارب الجميل الذي أودعته قصائدي ،كان يتهادى وسط الموج ،مالي أراه مقلوباً على وجهه؟ .
اسكنني الصمت والحيرة ، هل أنا في طيف ؟ أين تلك الشموس ؟ وأين أقمار الليالي ووشوشة النهر؟ ، حتى النوارس غادرتْ أعشاشها، لم يتبقَ غير أشجار شاختْ عند جدار الوحشة والنسيان ، ثمة غرباء على آخر الشارع يعتلون دباباتهم، يلوكون كلاماً لاأفهم منه شيئاً .. كانوا يحملقون فيّ عن بعد وكأني غريب اجتاح منطقة محرمة. سأقلع بقاربي الى تلك التلّة الخضراء المعانقة لحلم طفولتي والناشدة قصائدي المنسيّة، سأغادر حيث الأغصان التي تتفيأ هواجسي وذكرى امرأة ممزوجة بأسفاري ، وانتظرتُ تحرقني آه الأمس ، أمس مطرّز بليالي البنفسج ، والهمس وصدى الأغنيات والأماني ، ؛حتى هبتْ ريح الخراب ، فكنّا نبحر على أرصفة الموت و نغيب في منافي لاقرار لها ، لوّنتنا تلك الليالي با لخوف والعدم ونفايات الحروب ،فكم من قمم جبال مرعبة اتخذتْ شكل مجزرة نحرتْ فوق مراياها أحلاماً وسنيين ، اختلطتْ عند سفوحها وفوق صخورها أشلاؤنا ، أشلاء مبعثرة مازالتْ راقدة تحت الثلج نابضة بأوجاعنا ، تطلق أنفاساً نازفة بالجنون ، تحكي قصة جندي مرّ من هنا وآخر غادر جسده مكرهاً.النهر حاصره الجفاف ، وخطى العاشقين ترجم طقوس الحرائق وقد بدأتُ أبحر في مركب الذاكرة ، ذاكرة لاحدود لها سوى الوجع والحرمان ،لأستعيد جمال المكان كي تنبتُ الروح زنابقاً وياسمين ، مضيتُ في كلّ الأتجاهات، مرايا تورق ظلال قمر راقص فوق شفة الليالي وقناديل تنير أوجاعنا القديمة ، يعانقني كأس معطّر برائحة النهر ، نمضي في دروب غنّتْ لها الذكريات ، كنّا نأتي هنا نرتّل مواويل الفجرفي ظلّ أشجار النخيل والصفصاف التي تّلوح لقدومنا عن بعد ،كانت تسعدنا غفوة المساء على أكتاف تثاؤب العيون الناعسة، أضحتِ الأمنيات أرضاً يباباً و شواطيء الذكريات ملاذاً ضائعاً لاأثر له سوى جذوع متيبّسة راقدة على صراخ نهرٍ يمورُ بالعشق لصخب العابرين ، يحكي سرّ القصائد التي التهمتها أمواج مفتونة بجنون قارب شيَّعتهُ سنونَ الجفاف والخراب، قارب يحلم بضياء المدّ بعدما انتابته قذائف مدجّجة بالجزر.ارتديتُ أفق الرغبة ، تسللتْ بين أصابعي إرتعاشة عناق يتسع لوهج الإبحار لتلك التلّة الخضراء الغافية على صمتٍ يهمس باللقاء. سأكتفي بفيض كهولتي وعطش غريب لأهلهِ لأمتطي صهوة أنفاس قاربي ،وأعبر سموم حرائق الخداع إليها، هشّمتُ ماتبقى من عروق حيرتي واندهاشي ، كانت مآتم الأحجيات تتلاشى بين دخان الصمت ،لأنّ خطواتي القادمة جزءاً من الماضي ، المسافة الممتدة بين أول خطوة وبين القارب المقلوب على وجه الرمال تغريني بقبلاتها ، حملتُ مجداف سنيين الوجع المرجومة بالخراب والتيه، وانحدرتُ في لباب نسيم هبّ من ضلع الآه ، أنشد لهفتي لموجٍ يرسيني وقاربي لمرافيء الجمال وحكايات الينابيع، ينابيع العشق وبراءة الطفولة . خطى المسيرتقطع أزمنة شهقاتي، تتخذ شكل رغبة مجنونة بالصراخ ، صراخ يملأ المدى ، يجهش بأماني محنّطة بأضغاث التوق لضياء القارب،الموج يغسل وجه الأرض، مكتنز باللهاث، القارب مشدود بنشيد المدّ، خطوة خطوتان ثلاث مرتعشة بأصوات حنين النوارس،و ما بين الموج والخطوات مسافة قارب تهتف بالتلاقي، غير أنّ رصاصة من آخر الشارع أسكنت آخر الخطوات.
* قاص من العراق