قراءة في رواية “صلاة القلق” للروائي المصري محمد سمير ندا
أمواج أبو حمدة
رواية “صلاة القلق”، الحائزة على جائزة الدولية للرواية العربية (البوكر) لعام ٢٠٢٥، هي رواية فانتازية سياسية ساخرة. رواية شدّت أنفاسي بكل معنى الكلمة، وجعلت تفكيري في تخطي بعض الفقرات أو الجمل أو حتى الكلمات عملية مستحيلة، لأن أسلوب كتابتها فعلا شيق جدا، ولغتها ساحرة في ثرائها وإتقانها وسرعة وتيرتها وإيقاعها.
تبدأ الرواية بحدث غامض بالقرب من قرية متخيلة ومعزولة في أرياف مصر اسمها “نجع المناسي”. وتتوالى الأحداث الغامضة التي تقلب حياة أهل القرية البسيطين لتطرح الرواية من خلالهم تساؤلات جوهرية حول واقع الأمة العربية. الأحداث التي تلم بالقرية وأهلها هي أحداث فنتازية ملتبسة ومعقدة وخفية مثل انفجار عام ١٩٧٧ لجسم مجهول غير محسوم بأمره اذا كان نيزكا او قمرا صناعيا. وهنالك الوباء الغريب الذي أعقب الانفجار، وشوه ملامح بعض الناس حتى تحولت رؤوس بعضهم إلى رؤوس سلاحف! ومن ثم كانت “صلاة القلق”، الصلاة التي ابتكرها إمام المسجد في القرية لتكون طقسا دينيا أو روحانيا هدفه تخليص الناس من خوفهم وهواجسهم.
هزيمة حزيران او نكسة الـ ٦٧ وتبعاتها النفسية والاجتماعية والرمزية على الانسان المصري والعربي، وتأثير هذه الهزيمة وما ترتب عليها من ترددات نعيشها الى يومنا هذا، تشكل المحور الأساسي لهذه الرواية الفنية، التي تعيد قراءة هذا الحدث، غير المنفصل عن حدث النكبة في ١٩٤٨، لتظهر أن الهزائم تتوالد من بعضها البعض وأن تأثير ذلك على الأمة العربية واضح منذ لحظة فقدان فلسطين. تظهر الرواية الشعور الجمعي بالضياع والانغلاق والخراب والعجز والخوف وفقدان الثقة، والصوت والمنطق، فتصبح “نجع المناسي” وناسها نموذجا مصغّرا عن العالم العربي بعد النكسة، الذي فَقَدَ القدرة على الفعل، وأُجبر على العيش في قوقعة من التكرار والخوف والدونية.
الحكاية تروى من خلال ثماني شخصيات مختلفة، كل بصوتها، وكل صوت يحمل تجربته النفسية الخاصةن والمرتبطة بوعيه وذكرياته وادراكه. تشكل هذه التعددية الصوتية مساحة أكبر لتشمل تعدد الفئات الاجتماعية، وتبين منظورها وتجاربها في معايشة الأحداث، لكن بالتأكيد أن جميع الأصوات الثمانية هي أصوات أناس بسيطين لا يكون لهم دور عادة في سرديات الحروب والبطولات والتاريخ، وقد أعطوا رؤية ذات طبقات متشابكة ومنتشرة تعكس حالة الشك والخوف وفقدان الثقة والعلاقة بالسلطة والمجهول.
ينجح أيضا محمد سمير ندا في تحميل الرواية تأملاً وجودياً في الذات وعلاقتها مع الآخر والسلطة والدين والمجهول والجهل. الرواية مبنية على الاستعارات الرمزية التي تمثل العزلة والخوف والوهم والقلق الذي أصبح جزءا من تركيبتنا سواء كان قلقاً اجتماعياً أو دينيا أو سياسيا. القلق في هذه الرواية هو ليس فقط حالة نفسية وفردية بل هو حالة وجودية وجماعية واجتماعية متغلغلة في صميم نسيج المجتمع العربي مؤثرا في قوتها ووعيها وذاكرتها ونفوذها ومرجعيتها وسلطتها ودينها، وحتى في لغتها. القلق أصبح طقساً من طقوس الانسان العربي. تركز الرواية، أيضا على استخدامات السلطة، وتأثيرها المرواغ على وعي المجتمع. والسلطة أنواع في هذه الرواية فهي سلطة سياسية وسلطة دينية وسلطة تاريخية ورمزية ولغوية، لكنها بجميع أنواعها تشكل سبباً من أسباب مآزق الانسان العربي في ظلّ فشل حكوماته وهزائمها السياسية المستمرة وتزييفها السافر للواقع.
ومن بعض رمزيات الرواية الكثيرة، نجع المناسي، ورؤوس السلاحف، وتمثال الرئيس جمال عبدالناصر، والجزء الأسفل من هذا التمثال وتقاطع مهن وأسماء ومخاوف بعض الشخصيات الثمانية والأساطير الشعبية والصلاة والقلق والمراكب والراديو والكثير غيرها. جميعها تخدم السياق الأساسي للرواية واستعاراتها السياسية والوجودية والدينية والفلسفية وتساؤلاتها عن القلق الذي حل مكان الإيمان وعن مرحلة ما بعد انهيار المشروع القومي وعن الفساد الحكومي والتضليل الإعلامي المستمر وعن وهم النصر وكذبة السيادة.
سوف أتوقف عند لغة الرواية مرة أخرى لأنها مبهرة وغنية وجريئة، ولها بناء مختلف ومبتكر ومركب ومتين ومحكم. وهي شاعرية أيضاً، ومليئة بالمجازات والرمزيات والبلاغة الجميلة مما يجعل قراءة هذه الرواية تجربة لها إيقاع خاص، وكثافة فكرية جذابة، ووتيرة سريعة تليق بقلق شخصيات الرواية. لست متأكدة كيف يمكنني وصف إيقاع لغة هذه الرواية بطريقة تعبر فعليا عن إحساسي بها، قد تكون اللغة أشبه بآيات أو ترانيم تليق بصلاتها الخاصة!
“صلاة القلق” رواية تستحق القراءة لأنها تجربة أدبية مختلفة تدفع القارىء الى التفكر والتفكير وتحثه على التساؤل، وإعادة ترتيب الواقع. هي رواية عميقة جداً وتجربة أدبية قوية وذات قيمة فكرية رائعة، وإضافة مهمة إلى الأدب العربي. قد لا تكون سهلة أو مستساغة لجميع القراء، فهي ليست بالنموذج السردي المعتاد، لكن بالرغم من هذا أنصح بشدة بقراءتها.
منشورات ميسكلياني في ٢٠٢٤
عدد الصفحات ٣٥٣
مرتبط
إقرأ أيضاً
قراءة في رواية "رنيم"*قاضي ناصر( ثقافات )جرت عنونة الرواية تحت مسمى "رنيم" للكاتبة بيران، وهو رنيم كل شخصية…
-
-