*محمد أبو عرب
( ثقافات )
سيدفعني الحنين لقول أشياء كثيرة
سأقول عن الأشجار التي نمت بيننا
عن الرصيف الذي مضى إلى البحر
عن يدينا التي صارت وروداً في أول ريح
عن البساتين التي علقت قطوفها في سقف السماء
ومضت تغسل النبات على ضفاف النهر
سأقول عن الكلام يجفف ثوبه في الريح
عن الأرض التي نامت ولم تنتبه لصوت الحطابين
سأقول عن شعركِ إذ يعلّم القرط صوت الآذان
عن نحرك الذي علم النهر فكرة الجريان
عن الشامة في عينكِ اليسرى
سأقول عنكِ كل شيء
حتى الخواتم في يدكِ سأرسمها وأكتب قربها تعويذة للراحلين
سيدفعني الحنين بكلتا يديه إلى الحكاية الأولى
سيمنحني قليلاً من الوقت لأبدل دمعتي بأخرى
وأعيد رسم شفاهي كما لو أنني أبكي من جديد
سأمرر وجهك مرات كثيرة قربي
وحين أتعب سأختارني طفلاً لا يعرف عن القلب سوى
أنه حشوة قطن في جوف دمية
سأعود بحجم الخامسة
يداي قصيرتان
وجهي ضئيل
وعيناي تلمعان كضحكة
أسناني مرتبة كخزانة أمي
وأنفي لا يعرف الفرق بين رائحة القرنفل وكف امرأة
سأعود إذ أحمل الفرح على ظهري
وأجري بكامل الشغب
وأرسم في جدار البيت أنشودة البلد البعيد دون قصد
فالبلاد تشبه طفلاً من دائرة وخمس خطوط
سأختبئ كقط منزلي تحت طاولةٍ
وأغفى منسياً
ومحروساً بالعتمة
سأعود إلى الثالثة
ألحق خفة الطير في فناء البيت
وأرشد الحصى إلى زجاج النافذة
أما جارنا الأشيب فينام قرب أشجاره
متعباً مني ومن قبر زوجته السعيدة
سأبدل اللغة كما اشتهي
فأقول عنك أمي
وأقول عنك جارتنا البعيدة
وأقول أنتِ معلمة الفصول؛
الصيف أول الحب
الشتاء ذاكرة
الخريف مالح
أما الربيع فلن يأتِ في هذا العمر
سأعود إلى عامي الأول
إذ أبعثر اللون في الفراغ
وأتهجى الوجوه
فألدغ فيكِ
أمسك النار بكلتا يديَّ
وحين يعلو البكاء
أناديك مرتين
مرة كي تسعفيني
ومرة حين المح الوداع
سأعود إلى بطن أمي
لا وطنٌ يمن علي بصورة الزيتون
ولا أب يعلمني المشي كي أقاسمه التعب
ولا بيت يضيق بي كلما ناديت بلادي بلادي
ولا أنتِ إذ تتركين ظلالي يابسة وتمضين
إذ تفرغين القلب من كراريس الحياة
وتقولين: سنكمل الدرس بعد هذا الكون
إذ تمرين في لغتي
فأصير في الأبجدية حرفاً ناقص التكوين
سأعود للعدم
إذ أغفو بهدوء ريشة في جفن الهواء
أترنح كخيط من هباء
لا يمسسني المعنى
ولا يعرفني مجاز
سأعود حيث أتيت
أنتِ التي أرشدتني إلى حتفي
وتركتني في أول الدرب حجراَ
ركلته الحياة حتى عاد كالعرجون القديم
* شاعر وصحفي من الأردن