قراءة في رواية قناع بلون السماء- رواية الأسير الفلسطيني باسم خندقجي

(ثقافات)

قراءة في رواية قناع بلون السماء- رواية الأسير الفلسطيني باسم خندقجي
 د. عزام أبو الحمام

ما الميزات التي رشحت رواية الأسير الفلسطيني باسم خندقجي للفوز بجائزة البوكر العربية؟ هل تعاطف أعضاء لجنة التحكيم مع الرواية بحكم أن كاتبها يعيش في سجون الاحتلال منذ حوالي 20 عاما من أصل حكم بعدة مؤبدات؟ هل جاءت الرواية بعناصر روائية مميزة إن كان في موضوعها أو في تقنياتها السردية ومعمارها الفني؟ هذه تساؤلات ثارت في ذهني بعد أن علمنا بخبر فوز الرواية بالجائزة، وهو ما دفعني للبحث عن نسخة الرواية وقراءتها في أسرع وقت، وها أنذا أشرك القارئ في انطباعاتي وملاحظاتي حول الرواية إن من حيث المعمار الفني أو من حيث الموضوعات التي عالجتها الرواية.
ولنبدأ بالموضوع الرئيس للرواية الذي يدور حول الصراع الوجودي الفلسطيني الإسرائيلي الذي بدا متمحورا حول هوية المكان وتاريخه وحاضره، وقد عبرت الرواية عن ذلك من خلال حركة الشخوص الرئيسيين والثانويين معا، وكذا من حيث الأحداث الرئيسة والثانوية، وتلتقي شخصيات الرواية وأحداثها في شخصية بطل الرواية/ الرواي نور الشهدي، وهو شاب فلسطيني وجد نفسه مواطنا لاجئا في مخيم للاجئين الفلسطينيين ملاصق لمدينة رام الله تعمد الراوي عدم ذكر اسمه لأنه من وجهة نظره: “هو المكلوم والكاتم والمكتوم والتائه والمغترب الذي ولد جاهزا مُجهزا بكل عتاد البؤس المتاح وغير المتاح في هذه الأزقة، فما الحاجة إلى الأسماء إذن؟- ص 15”. نعرف من خلال السرد أن الراوي/ نور تخرج من معهد فلسطيني للآثار، وأنه زاول عدة أعمال في سوق العمل الإسرائيلي قبل تخرجه من الجامعة ثم واصل أيضا العمل في الخدمات بهدف توفير المتطلبات المالية لدراسته الجامعية. وتبدو شخصية الراوي قلقة متذمرة ساخطة تميل إلى التمرد على قوانين الواقع وتقاليده، لكنها مع ذلك تسهى لتحقيق أهداف غامضة، رغم أن أدوات وأساليب ذلك السعي كانت واضحة ومحددة وأهمها إنجار رواية حول حقيقة ومكانة “مريم المجدلية” في تاريخ اللاهوت المسيحي، وفي مسار مواز يمكن الاستنتاج أن الهدف الآخر الغامض يتمثل في تحديد سمات هوية المكان (فلسطين) عقب ما تعرضت له من سياسات تغيير الهوية وتشويهها من قبل سلطات الاحتلال.
ومن خلال الراوي نتعرف على شخصية والده (مهدي الشهدي)، وغالبا ما كان تقديم الوالد من خلال تقنية الارتجاع بالزمن Analepsis أو Flashback، وكان الشهدي الأب قد قضى خمس سنوات في السجون الإسرائيلية من أصل حكم ب 25 سنة قبل أن يتم الافراج عنه عقب اتفاق أوسلو 1993، لكن هذه العودة من السجن إلى المخيم رافقتها مرحلة جديدة حيث تنشأ سلطة فلسطينية تستقطب الطاقات الشبابية ومنها رفقاء الشهدي في السجون، ويتنكر هؤلاء لرفيقهم في النضال لينتهي به المآل إلى العمل على عربة لبيع الشاي والقهوة في أزقة المخيم، حزنت والدته حزنا شديدا وندبت حظ ابنها التعس، “غير أن ثمة الكثيرين من أهل المخيم احترموه أكثر، وقدروا خلوً دمائه من الانتهازية والتجارية بالإرث النضاليّ” ص 34)
الشخصية الرئيسة الثانية في البناء السردي هو “مراد” الذي كان صديقا لصيقا للراوي قبل أن تقوم قوة عسكرية إسرائيلية مستعربة بمباغتته واعتقاله مثلما علمنا أيضا من خلال تقنية الاسترجاع، إلا أن الاعتقال لم يمنع تواصل الصديقين عبر الوسائل المتاحة (رسائل سرية مخفية بين متون الكتب!)، ثم رسائل صوتية ظل الراوي نور يسجلها على هاتفه مخاطبا صديقه مراد وكأنه متيقن أنها ستصل إليه رغم أن الأمر غير متاح نهائيا كما نعرف، ومن خلال هذه الرسائل الصوتية نتعرف على الحميمية الفكرية والعاطفية والمعرفية بين الصديقين، ثم نتعرف على أفكار نور/ بطل الرواية الذي يخالف نصائح صديقه مراد السجين وينتهج لنفسه نهج البحث في التاريخ القديم بدل الشأن السياسي المعاصر، ثم نراه يتحول إلى الأدب والتخطيط لكتابة رواية أدبية تاريخية حول شخصية “مريم المجدلية” الواردة في بعض أناجيل العهد الجديد. المهم أن “مراد” السجين أشبه ما يكون بشخصية افتراضية، لأنه لا يشارك في الأحداث باستثناء قليل من الرسائل التي سبق وأن وصلت إلى الراوي، غير ان الراوي/ نور يواظب على مخاطبة مراد وكأنه المرآة التي يريد أن يرى صورته فيها، أو لعله المُعلم الذي لا بد من محاورته في الأمور الهامة، وإعلامه بكل هام وغير هام أحيانا.
هناك شخصية أخرى- مع أنها وهمية أو افتراضية- يمكن اعتبارها شخصية رئيسة، وهي شخصية “أور شابيرا” الاسرائيلي الذي عًثر نور على بطاقة هويته في معطف قديم ابتاعه من سوق الملابس المستعملة، وإذ ذاك يقرر نور استخدام هذه البطاقة وتقمص شخصية “أور” الاسرائيلي هذا، ما يتيح له الحركة في مدينة القدس وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 باعتباره مستوطنا اسرائيليا له الحق في التحرك كيفما شاء خلافا للمواطنين العرب الذي يخضعون للمراقبة والتقييد، وفي الحقيقة فإننا لا نعرف “أور” هذا إلا من خلال الصورة الذهنية التي يتخيلها نور/ الراوي، وأراد لها الراوي أن تمثل الجانب الآخر/ الاحتلال الكولونيالي، وتتكثف الحوارات الافتراضية بين النقيضين في ذهن الراوي/ نور، ويعكس ذلك أهم جوانب الصراع الفلسطيني الصهيوني، صراع حول هوية المكان، وهوية الإنسان إضافة إلى الصراع حول هوية التاريخ الذي تجسده الرواية في مسارات أخرى، خصوصا مسار الآثار القديمة وآثار أخرى جديدة تتمثل في بقايا وآثار معالم القرى العربية المهجرة والمدمرة.
وإذا عدنا للحدث الروائي، فإن الحدث الرئيس في المستوى الحاضر يستمر في التطور من خلال تبني نور/ الراوي بطاقة الهوية الزرقاء الخاصة بالمستوطن إسرائيلي (أور شابيرا)، حيث عهد إلى صديقه الشيخ مرسي إبن مدينة القدس (شخصية ثانوية)، بأن يقوم باستبدال صورة صاحب الهوية الأصلي بصورة نور، ومن هنا تبدأ رحلة نور في الانخراط في الأحداث باعتباره يهوديا/ إسرائيليا، يساعده على ذلك ملامحه الشقراء واتقانه للغة العبرية بلكنة اشكنازية، هذا إضافة إلى اتقان اللغة الانجليزية، باعتباره خريج معهد الآثار الإسلامية التابع لجامعة القدس، لكنه بعد أن تقمص أو تلبس شخصية أور شابيرا، يتقمص أيضا شخصية خريج معهد الآثار الإسرائيلي عوضا عن “معهد الآثار التابع لجامعة القدس” الفلسطينية التي تخرج منه الراوي/ البطل، وهو ما أتاح له الانضمام إلى حملة تنقيب عن الآثار ضمن بعثة تشرف عليها جامعات غربية وأمريكية، وحيث فتح المجال للمتطوعين الراغبين بالمشاركة، وتتركز مهمة البعثة في التنقيب في الموقع المفترض للفيلق الروماني السادس الذي كان يتموضع في شمالي فلسطين في منطقة مجدو- المجدل في العقود التي سبقت ثم تبعت الميلاد وصلب المسيح وتبشير الرسل بدعوته، وهذا الموقع هو في الوقت نفسه كان مسرحا مفترضا – من وجهة نظر نور/ الراوي، لأحداث تتعلق بمريم المجدلية، التي ولدت في هذه المنطقة. وفي مستوى آخر من الزمن، يتضح لنا أن قرى عربية في هذه المنطقة قد دمرها الاحتلال الاسرائيلي عام 1948، وأهمها قرية اللجون التي هي الوريث الأخير لحضارة مجدو- هرمجدون، وقد تم تدمير واخفاء معالمها من خلال تسوية الأرض وزراعتها بالأشجار الحرجية، وإقامة المتنزهات، مع ذلك، فإن بعض الاثار العربية ما تزال تطل برأسها هنا وهناك لتشي بالإبادة الفظيعة التي قام عليها كيان الاحتلال.
يعاني نور/ الرواي من أزمة الهوية المركبة الناتجة أولا عن احتلال وطنه وإحلال مستوطنين غرباء محله، ثم التلاعب في هوية المكان وتزوير التاريخ، هذا إضافة إلى كون واقعه الجديد في احد مخيمات الضفة الغربية لا يحول دون شعوره بالاختلاف أو الاستلاب أو الاغتراب عن باقي سكان المدينة، ولعل انتماؤه لمكان “المخيم” شديد التكثيف لم يكن مريحا، فهو لا يشعر بالانتماء للمدينة المجاورة، لكنه يشعر به إزاء مدينة القدس رغم أنه ليس من سكانها ولم يولد بها. يقول في رسالة صوتية مسجلة لصديقه المعتقل مراد ” كم أحسدك يا مراد على سجنك الأصغر… لأن واقعك الحديدي هذا واضح الملامح مكونٌ من معادلة بسيطة، لكنها قاسية: سجن سجين سجًان. ولكن هنا في السجن الأكبر الأمور لم تعد واضحة… تريد مني أن أشتبك! لقد اشتبكت يا صديقي في القدس.. في أعالي قمة توراتيًة إلى أن تدحرجت عنها ووصلت هنا.. إلى حجرتي هذه، مصابا بكدمات وجراح أصابت هويتي ووجودي.. لا عليك يا مراد، لا عليك. فما أنا فيه لا أجرؤ على كتابته في رسالة مهربة إليك… ص 51).
هناك شخصيات أخرى فاعلة، بعضها تاريخية مثل المجدلية التي جعل منها الراوي محورا رئيسيا لسرده في المستوى الثاني، والواقع أنه وضعها ضمن سياق النص الديني ولم يخرجها منه، وهي بذلك تعيش في المستوى التاريخي ضمن سياق بحث هدفه بناء رواية تاريخية، (كما فعل دان براون في روايته شيفرة دينفشي)، لذلك فهو يقضى وقتا كبيرا في النبش في تاريخ المجدلية والمسيحية في سنواتها الأولى وتاريخ منطقة الجليل وسهل مجدو حيث يقول في أحد رسائله الصوتية لصديقه مراد: (سيأتي اليوم الذي أنجز فيه رواية المجدلية التي سأذهل بها جميع من كتموني وهبلوني، لن أرسل إليك صورة تجمعني بخطيبة مشتهاة، بل صورة لي أنا والمجدلية عندما تصدر في رواية. ص 51). ويقول (لكنني بعكس دان براون لن أؤكد على زواج يسوع من المجدلية، بل على العلاقة الروحية الغنوصيًة التي كانت تجمع بينهما.. إذ هنا الحقيقة الواحدة ذات البعدين الذكوري والأنثوي، ص 109)، ولعله من الجرأة، أو الثقة بمكان، أن يشير الكاتب صراحة إلى بعض الروايات والكتب التي ناقشها بعدها عناصر روائية، فيلمح أو يوحي أنه متأثر بهذه الروايات وأولها رواية “شيفرة ديفنشي” مثلما أسلفنا، ثم رواية إلياس خوري: أولاد الغيتو، ورواية الدم المقدس والكأس المقدسة لميشيل بيجنت وهنري لنكولن وريتشارد لي، ثم رواية “قواعد العشق الأربعين” للروائية التركية إليف شافاق، حيث يورد الكاتب صراحة “وقد فكرت مليا اعتماد مسارين زمنيين، زمن الماضي التاريخي، وزمن الحاضر؛ تيمنا برواية أليف شافاق “قواعد العشق الأربعين”، طبعا هو يتحدث عن الرواية التي يخطط البطل/ الكتابتها، وتمثل رغبة الراوي/ البطل في كتابة رواية المسار الرئيس لأحداث الرواية الحالية والمبرر أو الستار الذي تتشعب منه/ و أو تلتقي فيه الأحداث والأفكار والخواطر.
لعل المستوى السردي الخاص بالبحث عن عناصر الرواية المفترضة حول مريم المجدلية وطبيعة علاقتها مع يسوع المسيح استغرق نصف الرواية. خصوصا أن السرد تضمن الكثير من الاستشهادات بالأناجيل المقدسة.
أما المستوى السردي الثالث من شخوص الرواية وأحداثها، فهو ما يتمثل في الرسائل الصوتية المسجلة على لسان الراوي/ نور إلى صديقه الحميم مراد المعتقل في السجون الإسرائيلية بأحكام عالية، وفي هذه الرسائل فإن نور/ الرواي غالبا ما يتعرض للزمن الحاضر، زمن الواقع في ظل الاحتلال وأفكار صديقه مراد حول الكولونيالية وأولويات النضال ضدها، ويتعرض أيضا لمسألة الهوية.
يتكثف الحدث من خلال التداعيات الشعورية والمعرفية لدى الراوي حول موقع التنقيب الذي سيشارك به بعد أن تقمص شخصية الإسرائيلي “أور شابيرا”، ومن خلال التفاعل بين الراوي وبين المشاركين في حملة التنقيب، خصوصا الفتاة الإسرائيلية “إيالا” التي تمثل الصهيونية بإنكارها لوجود شعب آخر على هذه الأرض، بينما تمثل الفتاة العربية “سماء إسماعيل” اصحاب البلاد الأصليين وتصدح بالرواية الأصلية التي تعكس مواقف الصمود والتصدي لمخططات الطمس والتهويد، وتنتهي الرواية أخيرا بانتهاء حملة التنقيب، ثم باللقاء الأخير- وهو لقاء مصادفة ولم يكن مخططا- بين الراوي/ نور وبين “سماء” ليفصح لها خلال ذلك عن هويته الحقيقية، وليرمي جانبا الهوية الزرقاء، والسلسلة التي تحمل نجمة داوود، ومن هنا يتنفس الراوي الصعداء بعد تخلصه من أعباء الضغوط النفسية والذهنية التي خضع لها طوال الفترة السابقة التي تقمص فيها شخصية “أور شابيرا” واضطر طوال الوقت لاخفاء هويته الحقيقية ولغته الأم.
“يضع حقيبته في مؤخرة السيارة، يتنهد بحرارة ثم يصعد جالسا بجانبها (سماء إسماعيل)، يحدق بها بتأثر عميق، يُغلِق الباب، ثم يقول لها قبل انطلاقهما معا هامسا بكل ما أوتي من لغته العربية المستعادة: “انت هويًتي ومآلي” ص 238.
علامات بارزة في بناء الرواية:
كنا قد أشرنا إلى أن الكاتب أشار صراحة لمجموعة روايات وظف بعض عناصرها البنائية في روايته هذه، إذ مثلا؛ فقد استعار موضوعة “مريم المجدلية” من رواية دان براون شيفرة ديفنشي، لكنه – كما قال- لا يوافق براون في نظرته إلى المجدلية، وهو أيضا ماثل هذه الرواية في طرقها زمنين، ماض بعيد، وحاضر متصل، ولنقل أن هذا ليس بالأمر النادر في أساليب السرد وكذا الفنون السينمائية، وهو أيضا ما أشار له الكاتب في تيمنه برواية “قواعد العشق الأربعين” من حيث انتشارها على مسارين زمنيين للسرد: الزمن الحاضر المتصل المتطور، والزمن الماضي/ التاريخي والأثري. وقد اتقن الكاتب التوليف بين هذا المسارين بدرجة كبيرة، وفوق ذلك فقد وظف تقنية استرجاع الزمن الماضي القريب ضمن تقنية Analepsis أو Flashback كما اسلفنا القول.
أما رواية إلياس خوري: أولاد الغيتو، فإن شخصيتها الرئيسة آدم دنون، شخصية ضبابية، تشبه شخصية الراوي/ نور من حيث أن آدم قدم نفسه إسرائيليا في الوقت الذي يكون فيه فلسطينيا بالأصل، وهذا ما استخدمه الكاتب خندقجي حينما وظف مثل هذه التيمة في الشخصية الرئيسة لروايته (نور الشهدي) الذي سيتقمص شخصية الإسرائيلي (أور شابيرا) لتكون هذه فرصة لكشف بعض جوانب الصراع على الهوية والأرض وفرصة أيضا للإطلال من الداخل على جوانب مهمة من المجتمع الإسرائيلي، ووجه الشبه كبير بين نور الشهدي وبين شخصية آدم في رواية “أولاد الغيتو”، فآدم أحد الأطفال الناجين من مجزرة اللد سنة 1948 التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين المحتلة، لذلك فهو يعيش محنة الواقع ويحمل تناقضاته فوق عاتقيه، وهو يهرب من ذاته، ويبحث عنها في الوقت نفسه وسط تغييب قضيته ومحاولة محو شخصيته وهويته.
وثمة رواية أخرى أشار لها الراوي/ نور، ويبدو أنه تأثر بها، ولعل الأصح من علاقة التأثير أن نقول تناص معها كما يؤكد هذا السياق الدكتور عزالدين المناصرة في الأدب المقارن، رغم أن المناصرة يعترف أيضا بالتأثير، لكنه يشدد على أن “التأثير والتأثر سمة موضوعية واقعية لا ترفع من قيمة المُؤثر، ولا تقلل من قيمة المتأثر، ما دام التأثير ليس سلبيا…” ص 463. وبالعودة إلى الرواية الثالثة التي أشار إليها الرواي/ نور الشهدي، فهي رواية “الدم المقدس والكأس المقدسة” لميشيل بيجنت وهنري لنكولن وريتشارد لي 1982، وقد كان محورها الرئيس يدور حول مريم المجدلية أيضا ومكانتها في الكهنوت المسيحي وما تداخل في ذلك من رمزيات وأساطير ظلت تتراكم وتتشعب في العالم المسيحي، وكانت هذه الرواية أسبق من رواية شيفرة ديفنشي 2003 ما يعني أن دان براون نفسه قد يكون اطلع عليها وتأثر بها قبل كتابة روايته .
هناك إشارة أيضا إلى كتب أخرى منها الكاتب الجزائري كاتب ياسين الذي اشتهر بكتاباته باللغة الفرنسية واشتهرت روايته “نجمة” التي فسرها النقاد بكونها بحث الكاتب واستغراقه في البحث عن الهوية الوطنية وما طالها من تشويه جراء الاستعمار والاستبداد.
يبدو أن الكاتب اختار هندسة معمار الرواية تجنبا للتبسيط والوقوع في مسار الحكاية أو التجربة الشخصية، فقد وظف في ذلك عددا من سمات الروايات السابقة، إضافة إلى تعدد مسارات السرد وتنوع أساليبه (النصي، الصوتي، التعليقات) وهو بذلك اختار لها قدرا من التعقيد عملا برؤية ميلان كونديرا للرواية “إن روح الرواية هي روح التعقيد، كل رواية تقول للقارئ: إن الأشياء أكثر تعقيدا مما تظن” .

ما الذي رفع من تقدير الرواية من وجهة نظر لجنة تحكيم الجائزة؟
نعيد تكرار السؤال بعد أن استعرضنا أهم جوانب الرواية، وللتسهيل والايجاز نذكر أهم مآثر الرواية وسماتها في نقاط كما يلي:
1. رغم أنه حبيس سجنه وما يعانيه من تحديات فيه، فقد استطاع الكاتب أن يحلق خارج السجن ويبني روايته بقدر كبير من الصنعة التي تنم عن وعي عميق بالأدب، وفن الرواية، والرسائل التي يمكن أن تحملها أو تثيرها، وهو بذلك يتخطى ما درج عليه أغب أدباء السجون، أو أدب الاعتقال، أو أدب النضال، الذي يجعل من التجربة الشخصية مركزا للرواية، وهو أمر ليس نقيصة أو عيبا بالطبع، لكن لعلنا بحاجة أكثر لتوسيع الرؤية، لتشمل باقي عناصر الصراع وعناصر الحياة الأخرى.
2. بقدر ما تحتاج الرواية إلى انسيابية في السرد وقدر من العفوية بقدر ما تحتاج أيضا إلى اهتمام ببناءها المعماري وتقنياتها السردية، إذ لا يكفي أن يكتب أحدهم تجربة حياته حتى وإن زينها بالكثير من الخيال أو المفارقات العجيبة، أو لنقل أن الكاتب يجب أن يقدم عملا مختلفا لا يقع في فخ التبسيط المخل بصلب الصراع، كي لا يكون قد وقع في رتابة رواية الحكاية أو السيرة الذاتية. في حين أن باسم الخندقجي، قدم عدة روايات في رواية واحدة، وإن كان في بعضها شيئا من تجاربه الشخصية، فهذا أمر لا غبار عليه، وأظن أنه ابتعد عن نفسه بقدر كبير جدا، وكان من الواضح، أنه اشتغل كثيرا في التحضير لكتابة روايته، وقرأ الكثير من الروايات والكتب، وأشار إلى أهمها ضمن سياق الرواية في المستوى الذي يجعل فيه الرواي منشغلا ببناء رواية حول مريم المجدلية، وكذلك، فقد درس عدة مجالات وحقق بها وسجل بيانات محددة، وهذا الأمر يتجلى في إلمامه بما يكفي من معلومات وبيانات عن علم الآثار، وما يمكن أن يحدث عمليا، واجتماعيا خلال تنفيذ الحفريات الآثارية العملية. أضف لذلك، حرصه على الإلمام بالمواقع الجغرافية التي كانت أحداث الرواية تدور فيها، إن كان في مسار الزمن التاريخي البعيد، زمن مريم المجدلية وزمن الفيلق الروماني السادس، أو في الزمن الحاضر المتصل، أي زمن الراوي.
3. لغة السرد أو بلاغة اللغة كانت متوسطة، ولعل واقعية شخوص الرواية وأحداثها هي سبب اللغة السردية التي تكاد تخلو من الشاعرية، والأصح أنها ذات مستويات بلاغية متفاوتة، ولعل هذا يعود إلى تفاوت المسارات الروائية موضوعيا وزمنيا، وفي بعض الحالات القليلة جدا، اقتربت اللغة من اللغة الصحفية.
4. زمن السرد، مثلما أشرنا بشكل متفرق؛ فقد تعامل الراوي مع ثلاثة أزمنة للسرد، أولها زمن السرد narrative time، وهو الوقت الراهن أو الزمن المستمر الذي يعيش فيه الرواي، وهناك المستوى الآخر زمن القصة story time، وهو ما يختص بالتاريخ المسيحي المتصل بحياة مريم المجدلية، أما الزمن الثالث فهو زمن مؤجل Delayed، ويتمثل ذلك في الرسائل التي يسجلها الراوي/ نور إلى صديقه السجين “مراد”، وهي تتراكم في مسجل الهاتف فلا يُعرف متى ستصله، وليس ثمة ما يؤكد أنها ستجد طريقها إلى السجن.
أخيرا، “لا توجد رواية كاملة، بما في ذلك الروايات التي صنفت على أنها خالدة، فلا تخلو واحدة منها من عيب” كما يقول سومرست موم (1847-1965) . إذ يمكن تسجيل بعض الهنات التي عانت منها رواية “قناع بلون السماء”، أولها ما يتعلق بعنوانها، إذ بعد قراءتنا للرواية نعرف أن القناع هو “الهوية الإسرائيلية” التي تتميز بلونها الأزرق، وقد استخدمها الرواي كقناع له في الانخراط في بعض الأنشطة والتحرك بحرية داخل فلسطين المحتلة، ويبدو لي الربط بين لون بطاقة الهوية (الأزرق، وكذا علم الاحتلال) هذه وبين زرقة السماء الصافية جانبه التوفيق، كذلك هناك هنات صغيرة مثل تقدير عمر “خديجة” زوجة الأب الثانية التي جعلها الراوي في الخمسينات من عمرها بينما يشير السياق إلى أنها في حدود الثلاثين. أيضا هناك عدم واقعية في بعض الحيثيات مثل تمرير رسائل سرية بين متون الكتب التي تهدى للسجناء الأسرى، أو حتى الرسائل الصوتية التي يسجلها الراوي كي تصل إلى صديقه في السجن دون الإشارة إلى انها لن تصل. هناك أيضا بعض الفقرات والكلمات الركيكة مثل (كتموني وهبلوني) لكنها نادرة جدا. وقد لاحظت- ولاحظ غيري- أن الرواية تبث قدرا من الطاقة السلبية، وكأنها تندب كل الوقائع والظواهر، وتضيق أبواب الأمل، باستثناء ما ظهر في السطور المرتبطة بالفتاة الفلسطينية “سماء” وهي من العرب الخاضعين للاحتلال منذ عام 1948 وقد فرض عليهم الاحتلال الهوية الإسرائيلية الزرقاء، فهم- هي- تمثل الحضور الصلب للهوية العربية في هذه الأرض وعليهم ينعقد الأمل. مع هذه الهنات، فإن الرواية جاءت مميزة ومختلفة عما سبقها إلى حد كبير وتستحق الاحتفاء. ولست في موقع التعقيب على قرار لجنة جائزة البوكر العربية، فهم أدرى بهذا الحقل، وقد اطلعوا على مئات الروايات المتنافسة في هذا السباق.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *