(ثقافات)
يحيى القيسي في “باب الحيرة”: السرد بين خطين متوازيين
لنا عبدالرحمن
لا يبتعد أسلوب السرد ، الذي اختاره يحيي القيسي لروايته “باب الحيرة” عن العنوان الذي يحيل القاريء منذ البداية إلي أمرين أساسيين في نصه ، أولهما فعل “الدخول” في كلمة باب ، ثم كلمة “الحيرة” ، التي يزاوجها مع فعل الدخول إنذاراً للقاريء بالانزلاق إلي متاهة النص التي تسير منذ البداية الأولى بين خطي الواقع والمتخيل ، “العقل والجنون”.
يبدأ القيسي روايته بعبارة الحلاج “من لم يقف علي إشاراتنا لم ترشده عباراتنا” ، ثم يعقبها بصفحة ونصف من الاستغفار الممتزج بالحكمة الصوفية ، التي سيجدها القاريء علي مدار النص ، ينتقل الكاتب إلي سرده الواقعي معنوناً البداية بكلمة “كل صباح” ليغوص في وصف تفاصيل حياتيه يومية يقوم بها بطله قيس حوران قائلا: “كنت أسير في شارع “الحبيب بورقيبة باتجاه المدينة العتيقة متجاوزا زحمة المشاه وأبواق السيارات ، ورنين المترو ، وصليل عجلاته علي القضبان الحديد ، ورفرفة العصافير علي الأشجار الكثيفة التي تتوسط الشارع وثرثرة الجالسين في المقاهي والحانات”.
وبين السرد الواقعي والتفاصيل الغيبية يمسك القيسي بيد قارئه عبر عناوين صغيرة متوائمة مع كل فقرة في البناء السردي لروايته لتشكل هذه الفقرات ملتحمة عماد الرواية وبنيانها الداخلي ، الذي يرتفع حجراً فوق حجر ، لتكون تلك العناوين بمثابة رموز دالة علي الغاية في سعي واضح للتكريس لفكرة النص الرئيسية ، وهي “الحيرة” فالكاتب حين يختار العناوين التالية: “ما عدت أدري ، لا فكاك ، ولكن من أنت حقاً؟ انتبه لهذياناتك ، لا مناص أبداً ، درت في التجربة” يحيل القارئ إلي مترادفات على شكل عناوين تهدف إلي قلب الحقائق وإحالة كل شيء إلي شك ، فالحيرة هي وهم بشكل أو بآخر: إنها انعدام اليقين في شيء وغياب الثبات أمام أي حدث ، والقيسي يري أن العناوين في روايته تؤدي دوراً مهما في السرد وعبر عن ذلك في حوار أجراه للقدس العربي ، فقال “العناوين الفرعية عندي جزء أساسي من النص وليست منفصلة عنه ، وأحسب أن هذا أمر جديد في الكتابة الروائية ، فدائماً نجد أن العنوان الفرعي يدل علي أو يوحي بشيء من النص الذي يليه ، وهو من هذه الناحية منفصل عنه ، وأنا رغبت أن يكون النص سلساً ومتدفقاً ومتوهجاً ، ولهذا فإن من يقرأ الرواية سيشعر أنه يستمر في القراءة دون أن أضع له أية مطبات أو عوائق حتي لا أفقده متعة الحفاظ علي الخيط السردي ، الذي يضمن بقاء المعني في ذهن القاريء”
جمالية السرد
وكما أسلفنا ، فإن الكاتب منذ البداية يضع قارئه أمام عتبات خطين سرديين مختلفين ، فالبطل هنا هو “قيس حوران” والمكان مدينة تونس ، إذن نحن نقف أمام مكان واقعي وبطل من لحم ودم ، لكن جمالية السرد تنطوي علي اعتراف قيس لصديقته هاديا بالرؤى ، والخيالات التي يبصرها ويحكي عنها ، قيس ولد في زمن الهزائم والانكسارات والعلل والنكسات وكان له سبعة أعوام من العمر ، حين قرعت طبول حرب 1967 واحتل ما تبقي من فلسطين ثم سيناء والجولان ، هذا ما يصف البطل فيه نفسه في حديثه الواقعي ، لكنه في حديثه ، الذي يهيج الذكرى والشجون ويحيل إلي خط سرد آخر يمزج ما بين المتخيل والنفسي والصوفي أيضاً يقول: “إنني إذ جاءني الوجد وهاجت بي الذكرى وتناوشتني الأحزان ، وضاقت علي الأرض بما رحبت ، أحب أن أصعد جبلا منيعا ، فإذا وصلت قمته ، رغبت أن أسمع موسيقي هندية لآلة الستار أو قوالي نصرت خان أو سورة مريم بصوت عبدالباسط ، وعندها يا هاديا أبدأ بالنشيج ، فالبكاء فالنواح بصوت عال تسمعه الخلائق فتبكي معي وعلي”
أما الشخصية الثانية التي توازي شخصية هاديا في أهميتها فهي شخصية سعيدة القابسي ، وهي الفتاة الجريئة المتمردة ، التي تقوم بتصرفات غير مألوفة ، لكنها ترتبط مع قيس بعلاقة حميمة تبدو علي الرغم من غرابتها أكثر واقعية من علاقته مع هاديا التي لا يحيلها الكاتب إلى الوهم بل يختم كلامه عنها بأنها تعيش في باريس ، وتدرس الفلسفة في إحدي جامعاتها وتتزوج من صحفي فرنسي ثم ينفصل عنها وتنشط في مجال حقوق الإنسان.
مدارات الحيرة
منذ الجزء الثاني من الرواية الذي يفتتحه الكاتب بعنوان “مدارات الحيرة” وبعبارة لبيرغسون تقول “لاشيء يشغلني سوي الحقيقة” ، تتصاعد وتيرة السرد المتوتر الذي يفتتحه بفعل افتراضي هو “كأن” حين يعنون النص بعبارة “كأن الماضي حاضر”.
منذ هذا الفصل تتزايد التخيلات والرؤي عند البطل ، فهو إذ بدأها بالحديث عن المخطط العجيب ، الذي عثر عليه في إحدي المكتبات واكتشف فيه عجائب وأسرارا ، فإن هذا الاكتشاف يبدأ بالتحول إلي هلوسات وهذيانات لا يخفيها أبداً “أحضرت كمية من البخور ، حص لبان ، جاوي ، حب حرمل ، واشعلتها مع بضع شموع ، وبدأت اقرأ التعازيم والأوراد سبع مرات ، ورسمت الدوائر والأرقام ، متجاهلاً ذلك النص المتشابك في المخطوط ، الذي يبتدأ بما يشبه التحذير: من السهل أن تلج متاهاتي وتري ، لكني لست ضامناً أن تخرج منها قط”.
هذا التحذير ، يشكل تنبيها لما سيحدث لاحقاً حين يفاجئنا الكاتب في ختام الرواية بأن قيس عاد إلي الأردن وأدخل إلي مستشفي الأمراض النفسية أول الأمر ، ثم شفي وتزوج بشكل تقليدي ، وصار معلماً للتاريخ ، متقلب الأحوال ، يحب التأمل والعزلة ، ولا يرغب في الحديث عن ماضيه.
هكذا يختتم الكاتب حياة بطله ضمن فعل الحيرة أيضاً والتساؤل الغامض عن كل ما جري ، إذ من الممكن أن كل ما حدث مع قيس كان مجرد أوهام أو تخيلات حصلت بفعل تساؤلاته الوجودية والفلسفية القائمة ، التي لم يعثر لها علي إجابة.
تتميز رواية “باب الحيرة” باحتوائها علي أكثر من أسلوب في السرد بالإضافة إلي تكثيف المعلومات وتتاليها بشكل متواتر يمنع الإحساس بالملل ، كما يتضح أيضا المزج الذي تعمده الكاتب بين الأقوال المأثورة والحكم والعبارات الفلسفية ، حيث تنفتح روايته علي أكثر من تقنية في السرد ، وأكثر من حيلة فنية تمزج ما بين فنيات القصة القصيرة والرواية ، هذا مع ملاحظة أن الاقتباسات المأخوذة من التصوف لاتحتل مساحة كبيرة من السرد ولا تتجاوز 155 كلمة في الرواية كلها ، لكنها تكشف علي إطلاعه علي العديد من الكتب والمخطوطات القديمة.
* قاصة لبنانية تقيم في مصر
نشرت هذه المادة في جريدة الدستور الأردنية – 2006