يختار يحيى القيسي لقصصه عدة أنماط وأشكال. بعضها ينتمي لأسلوب الكشف والرؤية الذي اتبعه في ثنائية “أبناء السماء” و”الفردوس المحرم”. ويحاول فيها تقديم نفسه، وتفنيد أثر علاقاته الاجتماعية على عالمه الداخلي. وحتى لو رأينا أنها تندرج في عداد قصص الخيال العلمي والخوارق (حيث تترادف الأحداث العجيبة مع شطحات التفكير كما فعل هيرمان هيسة في كتابه المتميز والخالد “أنباء غريبة من كوكب آخر”) تبقى موزعة بين سلسلة من الأحلام وأحلام اليقظة والكوابيس. ومن خلالها يحاول القيسي أن يخترع نفسه، وأن يطورها في زمان افتراضي ومكان متحول. فهو يحارب التاريخ بإلغاء الجغرافيا، ويحرص أن يعيش في أبدية تحمل واقعه البطيء والمحترق وتضعه في فضاء غير مقيد، دون حدود، ولكنه حاضر. ولذلك يستبدل في مطلع قصة “المزدحم” عبارة “كان في قديم الزمان” بعبارة “كان في قديم المكان”. وينظر إلى بطل قصة “المتشظي” على أنه هو الحقيقة المطلقة، ففي “فضائه” كما يذكر حرفيا “تتلاشى الأزمنة”. وبالمثل يجعل كافكا، مخترع أول أبجدية للوهم، ملهما لبطل قصته وهو يبحث عن علاقات اجتماعية مفقودة. وليس هذا وحسب، بل يربط حياته بما يسميه “الأصل المتعالي وراء حدود اليقظة والشعور”. وهذا ما تفهمه من صياح الراوي الملتاع وهو يقول: “اللعنة عليك يا كافكا…. لأنك كسرت عزلتي العظيمة وأجبرتني على الزواج وإنجاب أربع أطفال”.
كما أنه يحاول أن يصور العالم من زاوية خاصة به، فلا ينظر إلى حياته على أنها وجود اجتماعي، ولكن كما لو أنها عين ساحرة، أو عدسة مجهر، ننظر بها من الخارج إلى الداخل، ونتأمل من خلالها مكونات حياتنا الداخلية. بمعنى أن حياته تجربة وجودية يعيد بها تفسير كل شيء على أساس أن الذات هي المركز، وأن العالم يدور حولها، حتى أنه يرى أن الأمكنة تأتي إليه (قصة “المتشظى”). وربما لهذا السبب يعتقد كثير من النقاد أن كتاباته تصوفية، مع أنها في الحقيقة رؤيوية فقط، وتتابع تجربة حالمة في واقع مأزوم تؤمن به ولكن تخاف منه. وهو موضوع قصة “تلك الليلة”. وتدور أحداثها حول شاب يجهز أوراقه للسفر وفي آخر لحظة يناديه الواجب ويدعوه الجيش للالتحاق بقوات الاحتياط، فيترك حقيبته المهيأة للرحيل، ويمضي معهم. وأعتقد أن الحقيبة رمز فرويدي له معنى واحد، وهو الأثقال والذنوب والخطايا التي يحملها المرء معه في هذه الحياة. ولا يوجد برأيي أي فرق مهم بين أن تحمل حقيبتك بيدك وأن تدحرج صخرة على سفح جبل. حتى أن الرمزين يتناوبان بالظهور في قصص كافكا، وفي عدد كبير من قصص السوري جورج سالم المعروف بعدميته وتشاؤمه وتزمته. والأثقال هنا هي القانون، ولكنه قانون مدمج يتساوى فيه الأب (حامل مصباح ديوجين/ فانوس الإنارة في قصة “مخاض الأيام العواقر”) مع الابن الذي يشهد على المأساة ولا يشارك فيها. وعموما لا يوجد آباء وأبناء في قصص القيسي، بل مجرد أولاد كبار وأولاد أصغر ترعاهم أم (هي شريك متضامن – وتلعب دور عين الرجل ويده في قصة “فضاءات مثقوبة”). ولكن في خاتمة المطاف يحصد الابن وحده نتيجة ضعف والديه. وحينما يقول الضابط لقوات الاحتياط في قصة “تلك الليلة”: هل أنتم جاهزون للتضحية بأرواحكم؟.
يرد الراوي: نعم سيدي.
وبكل ممنونية تستبدل القصة حقيبة السفر بالخوذة المعدنية والعتاد. فهي أحمال من نوع آخر، ولكنها أيضا إشارة على ذنوب وأخطاء يتحملها الإنسان في حياته الشاقة. وتقسيم هذه القصة إلى 3 لحظات: الاستعداد للسفر. حضور الشرطي. العودة للجبهة المشتعلة، لا يختلف كثيرا عن عقدة أوديب التي تنقسم أيضا إلى ثلاث لحظات: نبوءة العراف – ولادة الابن – حكم الأب الجائر. ولكن القصة تكتفي بهذا المقدار من الأزمة وتؤجل نهايتها الدموية. وتعليق المحتوم من الطرق التي يمكن أن نلخص بها تجربة أمتنا كلها، فهي في حالة تأجيل، حتى أن حروبها غامضة وليست حاسمة، وتراوح بين الاحتجاج بالبيانات الرسمية أو الاستعداد لحرب لا نعرف متى تقع. وربما لهذا السبب يكتفي القيسي بالكلام في مجمل قصصه عن نصف أسطورة تكوين، ويتوقف مطولا عند التراب والنار وينسى أية إشارة ولو بسيطة للماء، حتى أن الأمطار التي تجرف ولا تروي غائبة تماما.
ودائما يوجد في البنية النفسية لشخصيات يحيى القيسي كثير من القلق والغموض مع محاولات مستميتة لتبرير النقائص والأخطاء، و كل شيء محكوم عليه بسياسة العبث والهدر والخوف. ففي “الفردوس المحرم” يهرب الضابط من الكهف المرصود ويترك أتباعه بانتظار عودته. وفي “أبناء السماء” يحاول الراوي أن يثبت أننا غير موجودين ونحن طاقة مهدورة في الفضاء، ولذلك لا معنى لدورة الحياة والموت لأن الطاقة لا تفنى أصلا. وهذه الفكرة تبرر إغفاله لكل الأشكال المائية، الراكدة والتي تجري، أو الغمر – رمز الفناء والعدم، و الينابيع – رمز التخصيب والحياة.
وعلى وجه العموم في مختلف قصص القيسي إصرار على أن الخطأ في الخارج ونحن بمأمن منه إذا عشنا حياتنا الداخلية، ولكن الواقع يغربنا عنها بواسطة أدوات تعذيب ومنع ومنها:
1- اليأس (قصة “المتشظي”)، فالتاريخ جامد ويخذل الجنس البشري ويجبره على الإقرار أنه لا توجد جدوى من أي شيء.
2-الغدر (قصة “فطومة”). وهي أجمل بنات القرية وتتعرض إلى لدغة أفعى سوداء ثم تموت. وربما كان الحذر والتستر أحد أهم مكونات الخطاب في أدبيات القيسي. وسبق له أن بنى كل رواية “الفردوس المحرم” على أساس الكتمان. وكانت الخبيئة أهم عنصر فيها (المقصود الكنوز التي طمرها الأغنياء في مغارات محفورة بالجبال). وغني عن الذكر أنها خبيئة رمزية، وتدل بقناعتي على أهمية العقل أو الحكمة وليس على الجاه والنفوذ.
3- الظلام (قصة “مخاض الأيام العواقر”). وتصوره القصة بشكل غول أو ضبع يلتهم الأم والإخوة جميعا. ولا يترك مرئيات غير الهواء. وهي برأيي ليست صدفة، فملاحظة شيء غير الانتفاع منه، وأن يرى بطل القصة الصغير “ذرات الهواء اللزج” كما يقول لا يعني أنه يتنفس ويعيش ولكنه يتمنى ويأمل فقط. هذا غير رهاب العمى الذي قد تتسبب به شدة الظلام، وما يترتب عليه لاحقا من رهاب بالخصاء، لو لا أن الأب يسرع لشد أزر ابنه وإلغاء مخاوفه بالولاعة ثم الفانوس. ولا أعتقد أن الابن ينظر لأبيه كمقاتل ولكن كمصدر من مصادر المعرفة. وبتعبير أوضح ليس في قصص القيسي ولع بالحروب والمنازلات ويعول كثيرا على التنوير. ولا تخلو صفحة من رواية “أبناء السماء” من انتقاد للتفكير الديني أو بالأحرى للدين الاجتماعي.
4-الجوع (قصة “الكلام غير المباح في الزمن النباح”). وفيها يتساوى العذاب مع موت المبادئ. ويخدم كلاهما في توسيع رقعة الاستلاب أو قتل الوعي والعودة إلى الغريزة، بمعنى آخر التحصن وراء قلاع النمط. ومع أن القصة ذات حبكة اجتماعية ولا يغلفها غبار بقية القصص، تقدم دليلا آخر على رهاب الخصاء واقتراب أوديب من ارتكاب جريمته ثم الإحساس بفداحتها. فهو ينظر لامرأة جميلة (بلحمها ودمها) وكأنها أم غريبة وحان الوقت للتضحية بها أو لالتهامها. وهذه أول نقطة دم في قصصه ولكن الوليمة لا تنعقد وتبقى مجرد احتمال.
وهنا تتجلى أبعد خصائص عالم يحيى القيسي. فهو ليس عالم الأب القاسي والمولع بتعذيب أبنائه وابتزاز أمهم، ولكنه عالم الابن المحروم والذي يبحث عن فرصة للانتقام وإشباع ثم ملء الفراغ الذي يسقط فيه ويعاني منه. وبهذا المعنى يقول مسعود بطل قصة “الكلام غير المباح” بعد أن يقتحم القاعة: أنت تحلم بيد تطعمك حتى تشبع.
ثم يتبين له أن المرأة التي قادته إلى القاعة تهيء له فخا. وربما لهذا السبب اختار القيسي لقصصه الاجتماعية والواقعية أن تدور أحداثها في أحضان الطبيعة وفي الحقول باستثناء قصة واحدة دارت أحداثها في المدينة، وقصة ثانية جرت أحداثها في اللامكان. وكلتاهما تفرضان على التوقعات والطموحات الكبيرة نهاية شقية.
بتعبير آخر لا يكتفي يحيى القيسي بمتابعة سيرة الابن، ولكن أيضا يهتم بحياة الأبناء في أرجاء الكون المفتوح والمتصل بالألغاز من جهة (في قصص الرؤيا) وبالمتاعب والعذاب (في القصص الاجتماعية). وهو ما يسلح أبطاله بمهلة للتفكير أو بوعي مضطرب يساعدهم لتقليب وجهات النظر في جوانب أزمتهم.
وبودي أخيرا الإشارة للعلاقة العضوية بين أدب الرؤيا والحداثة. وهذا ينطبق على الجميع ابتداء من رموز التصوف في القرن العاشر وحتى رموز الستينات والسبعينات. فالهم الذي جمعهم واحد، وهو الانفصال عن لغة البلاط – أو أدب المناسبات. ولكن آخر موجة في مشروع الحداثة حملت على كاهلها أمرين.
الأول استبدال الكاتب التابع بكاتب مستقل، وفي أردأ الأحوال بالمدون. وهو حلقة من الأسماء التي تصعد على سلم واحد.
الثاني الاهتمام بمجتمع الأمة، واتباع خطط للمقاومة، ولكن للأسف دون أي خطة للنجاة.
وفيما أرى الحداثة أصلا مشروع استعماري مضاد، أو أنها استعمار أبيض، وتتبع طريقة تطعيم نوع على نفسه. بلغة أوضح الحامل من نفس الفصيلة، وكأنك تقول الأبناء يعيدون تأهيل آبائهم (كما جرى تقريبا في أول محاولات النهضة – وكانت بدايتها بناء الخط الحديدي في دولة السلطان عبد المجيد عام 1839). وتخيم على مثل هذه السياسة روح مازوشية، تسرف بتقريع وتأنيب الذات، مع تصويرها بشكل ضحية ضعيفة (ويدخل في هذا المضمار وهم التآمر والتجسس، وكأنه لا يوجد للعالم هم غير أن يكيد لنا). وأرى نفسي مضطرا، بهذا السياق، للتمييز بين بنية متفرعة ورواية مركبة. فالتفريع يستلزم درجة إنتروبي عالية، بعكس التركيب من عدة طبقات، بحيث يصبح المعنى أحفورة، ويتحول الشكل إلى قناع، وهو أسلوب منفصل عن “الحكاية ذات الأدراج”، وأقرب لمفهوم “الدار الكبيرة”. وربما كان يحيى القيسي يبني كل آماله على تدارك هذه النقطة، لأنه يعمم ويجرد، ويواجه الأسئلة أكثر مما يقدم إجابات. وينظر لكوكب الأرض على أنه نتيجة نشاط بقية الكواكب (وكأنه يفتح ملفات استعمارية تتجاوز احتلال الأرض إلى غزو الفضاء – بالطريقة التي واكب بها جول فيرن وهــ ج ويلز عصر الإمبرياليات الأرضية). لذلك لا يسعنا إعفاء مشروعه من الهم السياسي والوطني. ويكفي التذكير بروايته “الفردوس المحرم”، وقد تناول بها ديمومة الروح وموت الصور (أو التقمص – خلود العقائد والأفكار)، دون إهمال المشروع العربي وعصر اليقظة – وقد تقاطعت هذه المحاور بشكل تفريعات تخرج من جذر واحد – أو مرويات لنفس الحكاية، إذا اعتبرنا أن المرويات قصص – أو أنها جزء من بنية الخطاب وليس مادته. وسبقه لذلك علي بدر في روايته الهامة “الجريمة، الفن وقاموس بغداد”. ويتابع فيها النشاط النفسي لرحلة ذهنية يتخللها عنف ضد أساليب التعبير وخطابها التاريخي. وينظر القيسي لحروب أحدث في قصة “تلك الليلة”، ابتداء من غزو الكويت وحتى النزاع الدائم مع إسرائيل. وأرى أنه موقف ثابت في كل قصصه. ولا يوجد عدو يحسب القيسي حسابه أكثر من إسرائيل والإسلام السياسي. ولكنه لا ينتظر عودة القائد الروحي من غيبته، ولا يرتدي درعه ويسل سيفه – بطريقة العراقي جمعة اللامي، ويختار أن يكون حالة سائلة. بتعبير آخر لا يتبنى مواقف بطولية ولا عنتريات، ويراوح بين المشاهدة بصمت، أو الإعراب عن المخاض المؤلم، كأنه يريد أن يستبدل وعيه بأحاسيسه. ويمهد بذلك للانتقال من سياسة العمل إلى أسلوب المعاناة، فيقول في قصة “مائدة الوحشة”:
أنا جمع بصيغة المفرد. أنا كثير.
ثم يضيف بانتشاء عجيب: أنا أمة وحدي.
سبق أن صدر للقيسي مجموعتان من القصص القصيرة وهما: الولوج في الزمن الماء (1990) ورغبات مشروخة (1996).
- تم نشر المادة في القدس العربي – لندن، وموقع العالم الجديد – العراق