دعاء الكروان بين الرواية والسينما

(ثقافات)

دعاء الكروان بين الرواية والسينما

حاتم السروي

 

ِوافتنا بالأمس السابع والعشرين من مايو ذكرى ميلاد الفنانة الفاتنة “فاتن حمامة” المولودة عام 1931، والتي جسدت لنا واحدًا من أروع وأجمل أدوارها في فيلم “دعاء الكروان” حيث أجادتِ في تمثيل دور الفتاة البدوية “آمنة” المحبة لأختها “هنادي” ولأمها “الفنانة أمينة رزق” والكارهة في المقابل لظلم خالها الذي قام بدوره “الفنان عبد العليم خطاب” والذي تولى أمر أسرتها بعد وفاة أبيها.
وبين الدلال الأنثوي الذي استخدمته بوصفه حيلة لإغواء المهندس “الفنان أحمد مظهر” لإيقاعه في حبها ومن ثم الانتقام منه باللوعة والهجر، وبين شعور الحزن البالغ على أختها المقتولة والذي نقلته إلينا بحرفية لاحظها النقاد والجمهور، استطاعت فاتن حمامة أن ترسم لنا لوحة درامية رائعة رأينا فيها براءة الفتاة البدوية “آمنة” ثم سعيها للانتقام، ومأساة أختها “هنادي” التي وقعت في غرام المهندس فغرر بها وقارف معها الخطيئة لتحمل منه سِفَاحًا، وقسوة الخال الذي أراد أن يزوج بنت أخته “آمنة” ويقبض مهرها لكن القدر أراد لها أن تخدم في بيت المهندس وتحاول أن توقعه في حبها فيقع وتقع معه في الحب!
وقد عُرِفَ عن عميد الادب العربي “د. طه حسين” تأييده للفن السينمائي ومباركته له؛ حيث رأى في السينما جهازًا تثقيفيًا تعليميًا وتربويًا؛ إلا أنه بعد مشاهدته أو سماعه بالأحرى لفيلم “دعاء الكروان” وجَّه للسينما اتهامًا بإفساد الأعمال الأدبية، ونفس الاتهام وجهه أيضًا تلميذه “د.محمد مندور” فيما لم يوجه الكاتب “نجيب محفوظ” هذا الاتهام لمخرجي معظم الأفلام المأخوذة عن رواياته حيث أن المخرجين وكُتَّاب المعالجة الدرامية لم يبذلوا كبير جهد في تحويل أعماله إلى أفلام لأنه كان يكتب بطريقة “مشهدية” ويقترب كثيرًا في أعماله من طبيعة الفن السينمائي نظرًا لممارسته كتابة السيناريو وأيضًا لصداقته مع المخرج المعروف “صلاح أبو سيف”.
ويرى الناقد الفني “د.مصطفى يحيى” في كتابه “التذوق الفني والسينما” أنه برغم قيمة الأعمال الأدبية الرائعة للدكتور “طه حسين” فإن إمكانية تحويلها إلى لغة السينما تعوقها مشاكل حِرَفِيَّة خاصة؛ ما عدا القليل منها الذي استطاع المخرجون – بالاشتراك مع كتاب السيناريو بطبيعة الحال- تحويله إلى أفلام مثل فيلم “ظهور الإسلام” عام 1951 والمأخوذ عن رواية “الوعد الحق” و”دعاء الكروان” عام 1959 و”الحب الضائع” عام 1970 وأخيرًا فيلم “قاهر الظلام” عام 1979 المأخوذ عن السيرة الذاتية لطه حسين “الأيام”.
ويرجع غضب الدكتور “طه حسين” أو بالأحرى “عدم رضاه الكامل” عن فيلم “دعاء الكروان” الذي ظهر فيه صوته الوقور في نهاية الأحداث إلى إدخال كاتب السيناريو والحوار الأديب “يوسف جوهر” تغييرًا جوهريًا على نهاية الفيلم الذي أخرجه “هنري بركات” فبدلًا من أن تأتي النهاية – كما في الرواية- لتتيح فكرة زواج “آمنة /فاتن حمامة” من “المهندس/ أحمد مظهر” نجد الفيلم ينتهي بقتل المهندس، ولهذا غضب عميد الأدب العربي وقال: “إن القتل أيسر عند رجال السينما من استمرار الحياة والحب” وهي مقولة تعكس لنا طبيعة نفسه المرهفة وإحساسه الرقيق.
وفي نقده للفيلم قال الناقد والمؤرخ السينمائي المعروف “جورج سادول”: “الفيلم مليء بالميلودراما المفزعة، ومثل هذه الأشياء لا تحدث في الحياة، وبصفة خاصة في حياة المجتمع الإقطاعي؛ ومع ذلك فإن فيلم “دعاءالكروان” عملٌ له قيمته بالرغم من الإفراط في الحوار والمبالغة في وصف بدائية الفلاحين، ولكن الإعداد الجيد له ومضمونه الاجتماعي النقدي يجعلان منه عملًا جيدًا”.
وعند مناقشة ظاهرة تغيير السينمائيين لبعض أحداث الروايات عند تحويلها إلى أفلام يجب الأخذ في الاعتبار أن هناك عدة عوامل تستدعي هذا التغيير، مثل عامل الوقت بالنسبة للفيلم السينمائي، وهذا العامل يتطلب أحيانًا حذف بعض الأحداث والتركيز على أحداث أخرى في المقابل لما فيها من الرؤية الدرامية، وهناك عامل تحويل العمل الأدبي الذي يقرؤه الأفراد “كل فرد على حِدَة” إلى عمل معروض لقاعدة جماهيرية، كما لا يجب أن ننسى المناخ العام الاجتماعي والسياسي وملاحظات الجهات الرقابية، وحتمية إظهار “القَصَاص” سواءً الجنائي أو الإلهي على المذنب حتى يشعر المشاهد بالاتزان النفسي ويذهب عنه توتره ويصل إلى مرحلة الرضا وما يسمى بـ “التطهر المعنوي” أو الرمزي؛ كما أن صناع السينما لا يرغبون بالطبع في اتهامهم بترويج الانفلات والخروج على شرعية الأخلاق والقانون، فلابد في الفيلم من إنزال العقوبة على المجرم.
ولأن بطل الفيلم “الفنان أحمد مظهر” قد ارتكب أكثر من جريمة؛ حيث كان يمارس الجنس المحرم مع خادماته ومنهن “هنادي/ زهرة العلا” فلذلك كان لابد – وفقًا لصناع الفيلم- من إنزال القصاص الإلهي بهذا المهندس، ليأتي مشهد النهاية حاملًا أمرين: أولهما العقوبة التي يستحقها المهندس، وثانيهما أنه قدم نفسه فداءً لآمنة التي أحبها حبًا حقيقيًا فأخذ الطلقة بدلًا منها مقدمًا لها حياته كمهر، وفي نفس الوقت تصبح هذه الطلقة هي المُطَهِّرَة له حتى يلقى ربه بلا إثم لأنه دفع ثمن خطاياه في الدنيا.
ولا شك أن فيلم “دعاء الكروان” جدير بالمنزلة التي وصل إليها، فقد جاء في الترتيب السادس ضمن أفضل عشرة أفلام مصرية، وذلك في الاستفتاء الذي أجرته مجلة “فنون” المصرية سنة 1984، كما أنه في استفتاء النقاد عام 1996 جاء ضمن أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وقد ساهم في تميز الفيلم دون شك أن مخرجه “هنري بركات” كان يهتم باختيار الممثلين وتوجيههم مع تكوينات الصورة السينمائية المريحة للعين والخالية من الافتعال والاستعراض الفني، بالإضافة إلى الحركة الناعمة للكاميرا والمونتاج الهادئ المتناسب معها والموحي بالنعومة والشاعرية، وقد بدا ذلك بوضوح في فيلمه الآخر الذي كانت نجمته أيضًا الفنانة “فاتن حمامة” وهو فيلم “الحرام” المأخوذ عن قصة الأديب “يوسف إدريس”.
وما جرى من معالجة درامية ضرورية لفيلم “دعاء الكروان” جرى مثله لكل الأفلام المقتبسة عن أعمال الدكتور “طه حسين” حيث يضطر كاتب السيناريو والحوار للأفلام المأخوذة عن أعماله إلى إجراء اختصار كبير للسياق الأدبي بما يحمله من لغة ووصف حتى يتلائم مع لغة السينما؛ حيث كان العميد يركز على الجانب الصوتي في أسلوبه من خلال ما يسمى بـ “الجَرْس” و”البديع” أحيانًا، نظرًا لكونه كفيفًا يعتمد على أذنيه في معرفة الأشياء ويسمع المكتوب ولا يقرؤه؛ وبالتالي يُحِيل مدركاته إلى أصوات تسجلها عبارات فيشعر القارئ عند قراءتها أنه يسمع الأشياء كما يقرأ، ولما كانت السينما من الفنون المرئية فبالتالي لا يتناسب معها الإطالة في العبارات الحوارية لأنها تعتمد على المَشاهِد بما فيها من حركة وديكور بالإضافة إلى الحوار طبعًا، والأمر بالطبع يختلف في الدراما الإذاعية المسموعة التي تعتمد أكثر على الحوار والموسيقى التصويرية ونبرات أصوات ممثلي الإذاعة.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *