رحيل زياد العناني: يطوي صفحة الماء نحوَ حتْمية التراب
بعد مُعاناةٍ مَرَضِيَّةٍ طويلة امتدت إلى زهاء 13 عامًا ماضية، رحل الشاعر الأردني زياد العناني (1962 ــ 2024) منتقلًا صبيحة أول من أمس السبت 25 أيار/ مايو 2024، من ذمّة الألم إلى ذمّة الخالق.
عن اثنين وستين عامًا، وسبعة دواوين، رحل العناني تاركًا خلوته المُضنية بعيدًا عن صحيفته (عمل العناني حتى مرضه في صحيفة “الغد”، وقبلها في صحيفة “الرأي”)، ورفاقه، وشقائق نعمان مدينته الشفويّة ناعور (الشفويّة نسبة إلى وقوعها في المنطقة الحائرة بين الجبل والوادي، بين عمّان وغوْر الأردن).
وحتى رحيله الحزين، حافظ العناني على انحيازه النهائي لقصيدة النثر، وخصوصًا المصنّف منها تحت اسم “القصيدة الومضة”، أو ربما التوقيعة في تسميةٍ أخرى، من دون أن يعني ذلك عدم كتابته قصائد طويلة، بل إن بعض قصائده، خصوصًا تلك التي كان يحتفي بها الملحق الثقافي لجريدة “الغد”، طاولت المعلّقات طولًا وملحمية وبناء حكائيًا ولمّاحيةً وفراسةً بدوية.
في ديوانه “في الماء دائمًا وأرسم الصور”، الصادر عن أمانة عمّان عام 2002، يكتب في إحدى ومضاته: “المقبرة هدوؤنا الدائم”، كما لو أنها “تَعَبُ كُلّها الحَياةُ فَما أعْجَبُ إلاّ مِنْ راغبٍ في ازْديادِ”، كما لو أنه يستشرف في عام 2002، مآلات صراعه مع الحياة والطغاة والمرض العضال.
أما أكثر قصائده استشرافًا لرؤية الموت سبيلًا للخلاص من مسيرة مرضٍ أتعبت روحَه قبل أن تتعب جسدَه، فتلك الواردة في ديوانه الثاني “مرضى بطول البال” الصادر في عام 2002، عن وزارة الثقافة الأردنية: “على الأقلّ/ لدى/ الموتى مسرّات/ لا حرّ/ لا قَر/ ولا سطوة أوجاع مُبْرحة/ تدفعهم/ في الليل بلا عقل/ نحو أطباء الأسنان”. ثم إنه في ديوانه الأول الذي طاوله المنع ولاحقته الرقابة “خزانة الأسف” الصادر في عام 2000، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يعترف أنه قد يبكي، ويبكي، مثل أي إنسان ضعُف أمام قدريّات العمر وتصاريف الزمن ولعنة الطين: “أبكي/ أبكي/ والغامض مثلي/ يبكي/ سرّ النفخة/ سرّ الكائن/ انتقل الطين إلى مسألة التعدين”.
عبر استشرافٍ آخر، ودّع العناني قراء صفحته الفيسبوكية قبل أن تباغته الجلطة الدماغية في نهايات شهر آب/ أغسطس 2011، بنصٍّ يشفُّ منه الحزن، ويبلّله البكاء:
“البيت ما زال هو البيت
والدرب ما زال هو الدرب
ربّما لم أره وهو يتغيّر بعد نومك
ولكن
لا عليك
إن ضاعت منك أو ضاع عنك
سيدلّك الحزن
وتقودك
يد البكاء الى جنّتي”.
في ديوانه الثالث “كمائن طويلة الأجل” (2002)، يعود العناني للماء الذي شكّل هاجسًا في ديوانه الذي أشرنا إليه سابقًا: “في الماء دائمًا وأرسم الصور”، حيث الماء في الكمائن يسبق الأرض والمعرفة واختلاط البشر: “في البدء/ ما كانت أرضٌ/ ما كان سوى الماء/ يتجوّل/ ضمن/ المجهول/ ويشكو عزلته/ للكون النائم”.
صدور ثلاثة دواوين للعناني في عام واحد؛ عام 2002: “مرضى بطول البال”، “في الماء دائمًا وأرسم الصور”، و”كمائن طويلة الأجل”، يطرح عديد الأسئلة إما حول دقّة المعلومة، أو حول طريقة تعامل محيطه الرسميّ والنقديّ مع طزاجته الشعرية التي فتحت له آفاقًا عربية وإنسانية واسعة، فهم كما لو أنّهم انْدلقوا نحوه دفعة واحدة، ثم أداروا له الظهر دفعة واحدة، علمًا أن “في الماء دائمًا وأرسم الصور” ظل قليل التداول، حتى أن بعض النقاد أطلقوا عليه اسم الديوان المفقود، أو المجهول. أما الديوان المسكوت عنه، الذي آثر العناني نفسه تركه وراء ظهره، إما لاختلاف المستوى بينه وبين دواوينه اللاحقة، وإمّا لأسباب أخرى لا نعرفها، فهو ديوانه “إرهاصات من ناعور” الصادر عام 1988.
في حوار أجراه معه الراحل الآخر القاص خليل قنديل (1951 ــ 2017)، يشير العناني إلى حصيلة تاريخ الرعب الذي رافق الإنسان منذ البدايات، رائيًا أن القصيدة (قصيدته على الأقل) هي مجموع الطاقات التي طورّها الإنسان بهدف التحرر من أدوات المنع ومن المكبوتات والاستنْطاقات اللغوية التي تفتقر إلى المعنى. ولعلّ هذه الرؤية حول الممنوعات والطاقة المناهضة لها، هي التي جعلت العناني يواصل حمل فأسه بيده ملوحًا به نحو جهات الأرَق، يقول في إحدى قصائد ديوانه الخامس “تسمية الدموع” الصادر عام 2004، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وبدعم من أمانة عمّان وبيت الشعر الأردني: “نامي/ نامي/ لن أصغي إلى أحدٍ/ فأسي بيدي/ والمعبد يرتجف”.
أما أكثر حنقه على شرقه الدامي المثقل بالتعاليم، فقد ظهر في ديوانه السادس “شمس قليلة” الصادر أيضًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عام 2006، ففي إحدى قصائد الديوان يصرخ ساخطًا: “الحياة التي صغتها سليمةً على الدرب/ عادت إلى الغابة/ البلاد التي حلمت بها/ مزّقها الغُزاة/ كل ما قلت وكل ما أرسلت لنا/ عبر الوسائط والضلوع/ مجرد هذيان/ مزقّه المحلل والمحرّم/ ثم وزعنا/ شهداء/ ومساكين/ على جبهة الأرض المغبّرة”.
عن الدار نفسها صدر له في عام 2009 ديوانه السابع “زهو الفاعل”، الذي طاوله هو الآخر منع الرقيب، وفيه يعمّق تأملاته حول الدولة والكرسيّ ورجل الأمن، ويكثر من القصائد المهداة إلى أحدهم؛ إلى خيري منصور: “قل كل شيء/ عنك وعني وعن زقطان وعن محمود/ في طين جداريته”، وإلى سركون بولص: “في النعي لا يبدو الموت كاملًا”، وشوقي بزيع، وشخص يدعى “ولّعت”! فهل نضع هذا الإهداء في خانة استشراف آخر من استشرافات زياد؟ وقصيدة مهداة إلى عمّه عبد الله، وأخرى إلى ناعور المدينة التي احتضنته سنوات عمره الأخيرة الطويلة أكثر مما فعل كل الأصدقاء والأعدقاء حوله.
متمرِّدٌ كان العناني، حتى، على ذاته، ودائمًا ما كان يفاجئ رفاق ليله المجنون بقصيدة مخبّأة تحت معطفه الخاكي بلون معطف والده العسكريّ، بلون رمل الصحراء وسرابها الأزليّ. ورغم غلاظة التفاصيل وتجهّم ملامح وجهه، إلا أنه كان يسبغ على قصائده بحنوٍّ غير متوقّع، كاسرًا هيبة المقدس، ناثرًا أحجار نرده في الاتجاهات جميعها، محوّلًا دمعته السريّة إلى شفقٍ يبرقُ من غيم المعنى ويفيض في موسم الدلالة.
لعل الأبلغ أن نختم الكلام عنه بمقطع شعريٍّ له من قصيدة كتبتها بنات تمرّدِه ونُشرت بعد مرضه، تحمل اسم “الأوبرج”، وهو اسم مطعم عمّانيٍّ ليليّ:
“أدر أيها النادل
من دون أن تعبأ بالحساب.
نريد أن ننسى البلاد والعباد.
نريد أن نثرثر على سبيل السكر من غير أن نخاف.
نريد أن نخرج من المتحف.
نريد أن نتذكر أجسادنا فيشتعل الجحيم دفعة واحدة.
نريد أن نخرج من يد الخلسة
من جنب الحيط إلى الشارع.
نريد صورة كاملة لنا ولكل العائلة.
نريد آباءنا الذين ذهبوا تحت التراب وليس فوقه.
نريد أمهاتنا على عتبات البيوت بلا مرض أو مقبرة”.
- عن ضفة ثالثة